(أحمد شوقي\ راصد الخليج)
بعد تواتر التقارير والأخبار التي أفادت بتنامي التوتّر في العلاقات السعودية الأمريكية، نفَت السعودية هذه التقارير، عبر سفارتها في واشنطن، وقالت السفارة السعودية في بيان إنّ العلاقة تاريخيّة ولا تزال قويّة بين البلدين، وأنّ هناك اتّصال يومي بين المسؤولين على المستوى المؤسسي وهناك تنسيق وثيق حول قضايا مثل الأمن والاستثمارات والطّاقة.
وجاء البيان كردّ مباشر على تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، قالت فيه الصحيفة إنّ العلاقة السعودية الأمريكيّة "وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ عقود وباتت عند نقطة الانهيار".
ولا شكّ أنّ الرّاصد الدّقيق للعلاقات السعودية الأمريكية يعرف أنّها مرّت بمحطّات كثيرة بدت فيها الأوضاع أكثر صعوبة من الأوضاع الراهنة، ولكن طبيعة العلاقة وعمقها تغلّبت على هذه الصعوبات، ووفقا لاستخلاصات المراقبين، يمكننا أن نقول أنّ العلاقات الدبلوماسيّة الكاملة بين البلدين التي أُقيمت عام 1940، ورغم الاختلاف البائن بين نظاميهما السياسيين، كان البلدان حليفين.
ووفقاً لتقرير لـ "بي بي سي"، فإنّ تحالف البلدين منذ الحرب العالمية الثانية كان ضدّ الشيوعية ولصالح المحافظة على استقرار أسعار النفط وفي سبيل المحافظة على سلامة حقول النّفط وطرق نقله من خلال الخليج. كما كان يهدف تحالفهما إلى تعزيز استقرار الاقتصادات الغربية التي كان السعوديون يستثمرون فيها أموالًا طائلة.
كما كان البلدان حليفين ضدّ السوفييت في أفغانستان في الثّمانينيات وفي طرد القوات العراقية من الكويت في عام 1991
ولكن لم تخلُ العلاقة بين البلدين من خلافات، كما حصل في عام 1973 عقب حرب تشرين العربية الاسرائيليّة عندما تزعّمت السعودية حظراً على تصدير النّفط إلى الغرب كما حصل تصدّع في العلاقة عقب هجمات أيلول / سبتمبر 2001 على الولايات المتّحدة التي حمل الكثير من الأمريكيين السعودية مسؤوليتها، لاسيّما وإنّ 15 من الخاطفين الـ 19 الذين شاركوا في تلك الهجمات كانوا من المواطنين السعوديين.
وفي واقع الأمر، فإنّ هناك هامشاً سياسياً للخلاف ولكنّه لا يرقى للخلاف الاستراتيجي، حيث يعتمد أمن المملكة على أمريكا، وتعتمد أمريكا على السعودية في تأمين الدولار وتأمين مصالحها في الخليج، وهو تحالف استراتيجي عابر للإدارات الأمريكية بتبايُناتها الشكليّة، ولكنّه عميق مع مراكز صناعة القرار الأمريكية أو الدولة العميقة الأمريكية الممثّلة في المجمع الصّناعي العسكري وول ستريت.
ولعلّ تقرير لمركز بروكنجز الأمريكي يُلقي بمزيد من الضّوء حول طبيعة العلاقات، حيث يقول في أحد فقراته، أنّ العلاقات الأمريكية السعودية هي طويلة الأمد قائمة على المصالح المتبادلة وقادرة على الصمود في وجه التّقلبات الجيوسياسية وتعاقب الرؤساء والملوك. ورغم الاختلاف الجوهري في العادات والتقاليد الثقافيّة بين الدولتين، إلّا أنّ الولايات المتحدة والسعودية عزّزتا علاقتهما التكافليّة القائمة على البترودولار وعلى الضّمانات الأمنيّة منذ بداية السبعينيات.
وتعود هذه العلاقة الخاصّة إلى السبعينيّات، فالسعودية كانت أكبر منتج للنفط في العالم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر دولة مستهلكة له وأكبر قوّة عظمى من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية. وقد عقد السعوديون صفقة لضمان تحرير فواتير النّفط بالدولار الأمريكي، أو ما يُعرف باسم البترودولار. إنّ تحرير كافّة الفواتير بالدولار الأمريكي أمر تضمنه السعودية جزئياً نظراً لمكانتها كأكبر دولة منتجة ومصدّرة للنّفط في العالم، والمتحكّم الرئيسي في منظّمة البلدان المصدّرة للنفط (أوبك).
إنّ إعطاء الدولار الأمريكي المزيد من السيادة الاقتصادية العالمية كفيل بدعم المكانة التي كانت أمريكا تتبوأها كمصنِّع رائد للسّلع والخدمات. ورغم تحوّل الإنتاج العالمي نحو الاقتصادات السوقيّة الناشئة، إلّا أنّ الولايات المتّحدة الأمريكية لا تزال تستفيد إلى حدّ كبير من حاجة العالم إلى الدولار الأمريكي لشراء السّلعة الأكثر تداولاً في العالم، أي النفط – ناهيك عن قدرة الولايات المتّحدة على تمويل عجزها المتنامي في رأس المال من خلال مراجعة دولية بسيطة لقيمة الدولار. وقد ساعد دعم السعوديين لنظام البترودولار الولايات المتحدة جزئياً على طبع الدولارات لزيادة المعروض النّقدي، دون التعرّض لعواقب كبيرة متعلّقة بالتضخّم، كما يحدث عادةً في الدول الأخرى خلال فترات الركود الاقتصادي.
وينفق السعوديون منذ عشرات السنين البترودولار على شراء الاستثمارات والبضائع والخدمات الأمريكية، بما أنّهم يجمعون كافّة دخلها وثروتها تقريباً بالدولار الأمريكي. فبالنسبة للسعوديين، إنّ إعادة استثمار البترودولار في سندات الحكومة الأمريكية يجنّبهم مخاطر تحويل العملة، كما يُتيح لهم فرصة الاستفادة من امتياز الوصول إلى أسواق السّندات الحكومية الأمريكية الممنوحة لهم وفق اتّفاق المملكة مع الأمريكيين، تقديراً لعملياتهم الشرائية الكبيرة المستمرّة، باستخدام سندات قصيرة الأجل. ومن أجل إعادة توظيف أو إنفاق كمية البترودولار المخزّنة اليوم والتي تُقارب 700 مليار دولار، يسعى السعوديون إلى فتح الكثير من الاستثمارات في أمريكا وشراء كمّيات هائلة من السلع والخدمات.
ومن بين السلع الأكثر تفضيلاً لدى السعوديين هي الأسلحة ذات التقنية العالية والسّفن البحرية والطّائرات الحربية والمروحيات والأنظمة الدّفاعية، وغيرها من المعدّات العسكرية الباهظة الثمن.
ولا شكّ أنّ الصناعة العسكرية الأمريكية حصدت وما تزال تحصد الأرباح من السعودية. فخلال فترة حكم أوباما مثلاً، بلغت مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى المملكة العربية السعودية 115 مليار دولار، ورغم أنّ الصّفقة التي أعلن عنها ترامب ببيع أسلحة للسعوديين بقيمة 350 مليار دولار خلال 10 سنوات على أن يُدفع مبلغ 110 مليار دولار فوراً- تبدو مهمة، إلّا أنّها تتماشى في الواقع مع العلاقة العسكرية السعودية – الأمريكية، وليست نقطة تحوّل فيها. فالولايات المتّحدة الأمريكية كانت أصلاً أكبر مصدّر للأسلحة في العالم حتّى قبل هذه الصفقة التي تمّت في الرياض، إذ بلغت صادراتها ثلث كمية السلاح العالمي، وتُعدّ المملكة العربية السعودية أكبر مشترٍ للسلاح الأمريكي، إذ تستحوذ على حوالي 10 بالمئة من جميع صادرات الأسلحة الأمريكية.
وتربط بين الولايات المتّحدة الأمريكية والسعودية مصالح اقتصادية متشابكة، لكن من الواضح أنّ هناك بعداً أمنياً أيضاً. فقد استمرّت الولايات المتّحدة على مدى عقود بتقديم ضمانات أمنيّة لدول الخليج المصدّرة للنفط. وفي الواقع، وعدت أمريكا بمساعدة أية دولة عربية خليجيّة تتعرّض للهجوم داخلياً كان أم خارجياً. جاءت هذه السياسة الأمريكية، المعروفة باسم عقيدة كارتر، كردٍّ مباشر على فقدان أمريكا أحد حلفائها الرئيسيين في المنطقة، وهو شاه إيران، الذي أطاحت به ثورة العام 1979. وربّما يكون تحرير أمريكا للكويت من قبضة الرئيس العراقي صدّام حسين عام 1991 هو أشهر تطبيق لعقيدة كارتر.
وعلى مدى عقود، ظلّت القوة البحرية الأمريكية في الخليج هي الضامن الأكبر لأمن حلفاء الخليج العربي ولمرور ناقلات النفط المجاني عبر مضيق هرمز وصولاً إلى بحر العرب. واليوم تضمّ القاعدة البحرية الخامسة التابعة للبحرية الأمريكية في البحرين 30 سفينة حربية أمريكية، إلى جانب حاملات طائرات ترصد 2,5 مليون ميلاً مربعاً من البحار لحماية حلفاء أمريكا في الخليج. إنّ وفرة النّفط في الأسواق العالمية هو عامل إيجابي للاقتصاد العالمي، وهو جيد دون شك للاقتصاد الأمريكي أيضاً- وهذا كفيل بتعزيز هذه العلاقة الاقتصادية – الأمنية.
هنا نحن نرى أنّ التوتّرات القائمة بين ولي العهد السعودي وإدارة بايدن هي خلافات شخصيّة ولا ترقى للخلاف الاستراتيجي ولا تعكس تحوّلًا استراتيجياً سعودياً، بل هناك استمرار لذات التوجّهات السعوديّة وذات التّحالفات الاستراتيجيّة.