(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
في الثّلاثين من تشرين الأوّل/ أكتوبر 1974، كان العالم على موعد مع واحدة من أغرب التصرّفات الصّادرة عن ديكتاتور إفريقي محدود الذّكاء، موبوتو سيسكو، سفّاح الكونغو العتيد قرّر استضافة ما عُرف بـ"نزال القرن" في الملاكمة، بين البطل المسلم محمد علي كلاي، والأسطورة جورج فورمان، على لقب العالم.
وتبدأ الحكاية من متعهّد مباريات ذكي، هو دون كينغ، نجح في الاتّفاق على النّزال الأهم في زمنه، لكنّه فشل في تأمين عروض رعاية كافية لمثل هذه المباراة الكبرى، والتي كانت ستتكلّف مبدئيًا نحو 10 ملايين دولار، وهو رقم قياسي بأسعار ذلك الزّمان، وكان الحلّ هو مُغازلة حاكم إفريقي يملك المال لإنفاقه على حدث كهذا.
ويُقال أنّ موبوتو سيسي سيكو أخبر من حوله، من المسؤولين المتذمّرين من استضافة المباراة، إنّ العالم كلّه سيعرف بعد النّزال أنّ هناك دولة كبيرة اسمها "زائير"، وهو الاسم الذي اختاره في 1971 عقب انقلابه في 1965 بدلًا من الكونغو.
وجاءت المباراة كما أرادها منظّمها والديكتاتور، لدرجة وصفها بأعظم حدث رياضي في القرن العشرين على الإطلاق، استعادَ محمد علي كلاي لقبَه بجدارة فائقة، وغنِم منافسه جورج فورمان الكثير جدًا من المال، وحقّقت المباراة دخلًا على منظّمها المحظوظ قدّرت بـ 100 مليون دولار أميركي، وهو مبلغ لا سابق له في هذا الوقت، ولم يتوقّف صنبور الأموال المفتوح، وبعد المباراة أنتج الفيلم الوثائقي "عندما كنّا ملوكًا"، الحائز على جائزة أوسكار.
على الجانب الآخر، فقير الإدراك محدود الخيال معدوم المنطق، لم يربح موبوتو سوى بعض الصوَر مع طرفي النّزال، وظلّت الصّحافة العالميّة تتناول بكثير من السّخرية قصّة ديكتاتور الأدغال، الذي أنفَق ملايين الدولارات على مباراة، بينما عاصمة بلاده –كينشاسا- لا تتوافر بها مستشفى واحد.
كان موبوتو سيسي سيكو يطمع في استكمال صورته لدى الغرب، مع صلاته الوثيقة بالولايات المتّحدة، ودوره كحصان طروادة في إفريقيا ضدّ حركات التحرّر ذات النّزعات الاشتراكيّة، وأن يُصبح نجمًا في الصّحافة والمجلّات الأميركيّة الكبرى، وفي سبيل هذا الهدف الأهم بالنّسبة له، فإنّ أموال شعبه لا تعني شيئاً كثيرًا، وليَمُت الكلّ من الجوع طالما البريق يُحاصر الحاكم المُطلق.
37عامًا قضاها موبوتو على كرسي السّلطة في الكونغو، لم تُفلح في تغيير وجه هذا البلد البائس، ولم تنجح سياساته سوى في المزيد من تعميق الإفقار وفرض الجهل ونشر المرض، رغم أنّ البلد يُعدّ أحد أغنى بلدان إفريقيا والعالم في مجال الموارد الطبيعية، لكن كلّها تذهب إلى جيوب السماسرة والمسؤولين، وقبل الكلّ، الشّركات الغربية الكبرى.
النّهاية جاءت كما تأتي كلّ نهايات الطّغاة، مزيج مروّع من التّراجع الهزيمة والانكسار وكلّها مغلّفة بالعار، هزمت قوات موبوتو بواسطة لوران كابيلا، وهرب الديكتاتور إلى توجو، وبحث في أواخر أيّامه عن دولة تقبل إقامته وتلقّي العلاج فيها، وعرضت السّنغال استضافته مقابل نصف ثروته –البالغة 4 مليارات دولار- لكنّه في النّهاية ذهب إلى المغرب، ومات هناك بعد أقلّ من 6 شهور فقط على خسارة كرسي الحكم.
وفي تقرير للأمم المتّحدة، صادر عام 2001، قدّرت ثروات الكونغو المعدنية غير المستغلّة بمبلغ 24 تريليون دولار، هذا الرّقم في مطلع الألفية كان يساوي إجمالي الناتج المحلي السنوي للولايات المتّحدة الأميركيّة وأوروبا مجتمعين، ورغم الحروب والانقلابات المستمرّة، فإنّها واحدة من أهم موردي الكولتان والنّحاس والكوبالت والألماس والذّهب على مستوى العالم، إلّا أنّ حصيلة الصّادرات –غير الشرعية- تذهب لأمراء الحرب في شرق البلاد وللمسؤولين في غربها.
لا جديد في المملكة يجتذب الأضواء، هذه الأيام، سوى هيئة التّرفيه، والتي أعلنت عن استضافة مدينة الملك عبد الله الرياضيّة بجدّة للنّزال الكبير في الملاكمة، بين الأوكراني ألكسندر أوسيك، حامل لقب بطولة العالم للملاكمة في الوزن الثّقيل، ومنافسه الإنجليزي أنتوني جوشوا، في واحدة من الأحداث الرياضية التي لا تتكرّر في العمر كثيرًا.
المتوقّع والطبيعي أن تجتذب هذه المباراة أنظار مئات الملايين، من محبّي تلك الرياضة، وفي المؤتمر التّقديمي للمباراة والذي جرت وقائعه بإحدى فنادق جدّة، حضر 100 من ممثّلي وسائل الإعلام والصّحفيين العالميين، لتغطية الكلمة الأخيرة لكلّ من أوسيك وجوشوا قبل المباراة الثّأرية، واستكملت هيئة التّرفيه الصورة البرّاقة بإطلاق لقب "نزال البحر الأحمر" على المباراة المنتظرة.
من جديد يثبت القائمون على الحكم في المملكة أنّ أحدًا منهم لا يقرأ التاريخ، وإن قرأ لا يستوعب أو يفهم، وإن فهم فإنّ إرادته غائبة، فلا يستطيع أن يتوقّف قليلًا بالعربة، عقب اكتشاف خطورة الطريق ووعورة الظّرف المحلّي والإقليمي.
يبحث الجميع عن الأضواء، عن فلاشات التّصوير، وعن مكان رئيس في صدر النّشرات الإعلاميّة الغربية، لا يهم أن تتكلّف مباراة بين متنافسين أجنبيين عشرات أو مئات الملايين من الدولارات، طالما ستنجح اللّعبة في تصدير صورة قائد الدولة راعي الرّياضة والحريص على تحديث المملكة وكسر عقود طويلة من الجمود.
وعوضًا عن الاستثمار في تغيير حقيقي، ينطلق من معرفة ووعي بالمجتمع السّعودي، وإيمان بتطلّعاته وقدراته، وثقة بإمكانيّات أبنائه، فإنّ محمد بن سلمان قرّر اختيار الطريق السّهل، وهو صناعة صورة موجّهة للغرب، لا تعديل الصورة التي يعيشها المواطن يوميًا.
وفي النّهاية سيبقى درس موبوتو، كما بقى درس الشاه محمد رضا بهلوي، قائمًا، الغرب لا يعرف إلّا مصالحه ولا تحرّكه إلّا أطماعه، وحين تقع الواقعة، فإنّ أميركا وأوروبا لن يُسارعا الخطى للنّجدة، وربّما تتندّر صحافتهم على تلك الأحداث التي تجري أمس واليوم وغدًا.