(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
ربّما لم تُعاين البشريّة خَيبة أمل، مثلما عاشَتها في مَطلع القرن الحالي، العام الأوّل منه بالتّحديد، حين كانت تنتظر بلهفة ما اعتبرَه الجميع نهاية التّاريخ وانتصار الحضارة الغربية، وكوكب "عَولمي" تنساب فيه وتَفيض ثِمار هذه الحضارة وتفرّدها على البشر في صورة سلام وحرية وخير ورفاهيّة، كما كان المبشّرون الأميركيون ينشرون الوعود بعالم أفضل في ظلال القيَم الأميركيّة وقُدرتها.
إلّا أنّ شهر أيلول/ سبتمبر شهد ما شهِده من عاصفة الدّمار والمَوت الهائلة، التي انقضت على قلب الإمبراطوريّة الأميركيّة، فجأةً ومِن السّماء، لتُزيلَ كلّ وهم، وتمسح أطنانًا من مساحيق التّجميل، عن وجه القوّة العُظمى المنفردة على قمّة العالم، وتُعيد تقديم أميركا للعالم كما هي عليه بالحقيقة لا بالخيالات البائسة والتمنيّات المريضة، دولة عدوانيّة بشكلٍ يفوق أي تصوّر.
وعلى الفور، وضع بحث صمويل هنتنغتون، والصّادر قبل الأحداث بثماني سنوات فقط، في دوريّة فورين أفيرز واسعة الانتشار والتّأثير 1993، موضع التّنفيذ الحرفي، وتُركت السّاحات كلّها تحت رحمة السّلاح الأميركي المتفوّق، وهي سياسة أو إستراتيجيّة دعا إليها هنتنغتون، معتبرًا أنّ صراع الإيديولجيّات قد انتهى بسقوط الاتّحاد السوفيتيّة، وأخذ معه النظريّة الشيوعيّة الماركسيّة، ثمّ أنّ الاقتصاد العالمي يفرض على كبار اللّاعبين التّعاون أكثر من الصِّدام، بفعل المصالح المشتركة، وهي كثيرة، ثمّ إنّها تدفع للتّعاون وتقسيم الأدوار بأكثر ممّا يُمكن أن تصل بأطرافها إلى صدام سيكون الجميع خاسرًا فيه.
وبحسب البحث المنشور، ثمّ الكتاب الذي أصدر هنتنغتون بعده، فنّد الأستاذ أطروحة تلميذه فرانسيس فوكوياما المعنوَنة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، وبناء على رأي هنتنغتون فإنّ الصّراع العالمي سيكون صراع حضارات، وبالموازاة معه صراع ثقافي، وسيُسيطر صراع الحضارات على القرن الحادي والعشرين كلّه، وستبرز فجأة الصّراعات الدّموية بين دول أو أقاليم تنتمي إلى خلفيّة حضاريّة واحدة وبين دوَل أُخرى تنتمي لحضارات غيرها، ورغم التنوّع الهائل في الحضارات البشريّة، وتعايشها خلال تلك الفترة، إلّا أنّ هنتنغتون خرج برأس نظريّته الجديدة، وهي "إنّ الصّدام الرّئيسي حتمًا سيكون بين الغرب والإسلام".
وبناء على التّجييش والتّعبئة التي قام بها الإعلام الأميركي، بجدٍّ وحماس بالغَين، ومن ورائه الإعلام الأوروبي مؤازرًا مساندًا، فقد ساهم دخول المجمّع الصّناعي العسكري الأميركي على الخط في فورة شعبيّة تُطالب بالثّأر والدّماء، ومع بروز حاملات الطّائرات والصّورايخ إلى المشهد، فقد بدا أنّ الكلّ، خارج واشنطن، قد فقد في لحظة واحدة أي قُدرة على التّأثير في الأحداث الدّموية التّالية.
وفي هذا المناخ المشحون بالعدائيّة وقرع طبول الحرب، أعلن الرئيس الأميركي –وقتذاك- جورج بوش الابن حَربه الصّليبية الخاصّة، ورغم توضيحات البيت الأبيض عن "زلّة لسان" وقع فيها الرّئيس ببساطة، فإنّ ما جرى كشف عن كونها أكثر من حملة صليبيّة على الشّرق العربي المسلم، وأنّها استهدفت –ولا تزال- تفتيت الحيّز الجغرافي والتّاريخي للعرب، وكسر ما يمكن كسره من مراكز إسلاميّة ولو كانت خارج الإقليم العربي.
ومن فورها، وقبل إجراء أيّة تحقيقات أو الانخراط في عمليّات معقّدة لجمع الأدلّة وربطها ببعضها وبالأحداث، اتّهمت واشنطن بشكل رسمي جماعة القاعدة، بزعامة أُسامة بن لادن بجرم العمليّة الدمويّة تخطيطًا وتنفيذًا، وشرعت في شنّ حرب إبادة على الشّعب الأفغاني الفقير جدًا، وهطلت أمطار القنابل وزخّات الصّواريخ الذكيّة تضرب كلّ ما طالته في سهول ووديان وجبال أفغانستان، ثمّ التفّت القوّة الأميركيّة الهائلة المتجمّعة أصلًا إلى العراق، لتعتبرها شريكة في الإرهاب، وكان ما كان من أمر سقوط بغداد وتفتيت بلاد الرافدين.
واليوم بالذّات، قد يكون فرصة نادرة لإعادة قراءة ما جرى في هذا اليوم العاصف، والذي يصمّم الإعلام الأميركي بعد مرور 21 سنة كاملة على وصفه باليوم الأكثر دمويّة في التاريخ، لكن هذا الإعلام ينسى أو يتناسى عمدًا أيامًا أسوأ وأكثر دموية بمراحل ممّا جرى فوق نيويورك، هيروشيما وناغازاكي مثلًا تستحقّان هذا الوصف بجدارة، أو تستحقّه مدينة دريسدن الألمانية، التي سوّتها قاذفات الحلفاء بالأرض باستخدام القنابل الفسفورية، أو الغارة الأميركية الأشهر على طوكيو، والتي استخدمت النابالم الحارق، وقضى فيها أكثر من 100 ألف مدني في ليلة واحدة.
لكن ما يهمّنا حقًا من استعادة ما جرى في 11 أيلول/ سبتمبر، هو التّذكير بالخسارة الفادحة التي وقعت على الأمّتين العربيّة والإسلاميّة، وتذوّقت فيها المملكة العربية السعودية وحدها وجبة مركّزة من الإهانات الأميركيّة، ثمّ واجهت اتّهامات مرسلة غذّاها الإعلام الأميركي بالحديث حول تمويل سعودي وصل إلى المتّهمين بالقيام بعمليّة قرصنة الطائرات، كما شجّع وجود سعوديين بين المنفّذين إلى ارتفاع ألسنة اللّهب بين الرّياض وواشنطن.
ورغم الجهد السعودي المتّصل في دفع اتّهامات جزافيّة، لا تستند إلى أي دليل، والاستعداد المسبق والكامل للتعاون مع الولايات المتّحدة، بل وإعلان الاصطفاف مع واشنطن في حربها ضدّ الإرهاب، عقب خطاب جورج بوش الشهير أمام الكونغرس في 22 أيلول "من ليس معنا فهو ضدّنا"، إلّا أنّ المُخطّط الأميركي كان يعتمد على الاحتفاظ بورقة اتّهام بمشاركة سعودية في الهجمات، لاستخدامها في أي وقت يناسبه لتمرير ما يريد فرضه على سياسة المملكة.
وكان التنازل الأوّل للملكة هو طرح المبادرة العربية للسلام، عبر ولي العهد –حينذاك- عبد الله بن عبد العزيز، وتقديم كامل فروض الطاعة والولاء لنظام شرق أوسطي جديد، تُعيد هندسته وتشكيله الولايات المتّحدة، كما تشاء ووقتما تريد، وتنخرط فيه الدول العربية بأكملها تحت قيادة صهيونية، لتزيد من الشّقوق في عالم عربي كان متشظيًا بالأصل.
وخلال عقدين كاملين من الزّمان، يخرج الكارت الأميركي من الأدراج فجأةً، ليفرض على الرّياض ما لا يُمكن قبوله أو تمريره، وتتسرّب الأخبار للصحف عن تحقيقات جديدة أو قضايا خرجت من رحم العدم لضحايا التّفجيرات، أو تحصل الصحف الكبرى فجأة على وثائق سريّة تقول إنّ أحد المنفّذين اتّصل بواحد من موظّفي السّفارة السعوديّة في واشنطن، لتُعيد الزّخم إلى القضية، وتشعلها من جديد، وتضغط بشدّة على الأعصاب العارية للمملكة، ويكفي هذه لتليين أي رفض أو تلكؤ سعودي في تحقيق مطالب وغايات واشنطن بالمنطقة العربية.
وفي هذا الموقف أيضًا، تناسى الأميركي أنّه هو نفسه الذي دعم أسامة بن لادن سابقًا في حربه بأفغانستان ضدّ الاتحاد السوفيتي السابق، وأنّ وكالة المخابرات المركزية الأميركية كانت شريكة في صندوق دعم الجهاد الإسلامي بالمال والسلاح، وأن تنظيمه بالأصل كان مخططًا أميركيًا لتوريط السوفييت في حرب طويلة، دون قطرة دم أميركية، وبدعم من الدول العربية والإسلاميّة، مصر والسعودية كانتا الأكثر نشاطًا في القائمة.
وأخيرًا.. فإنّ هذا لم يكن على الإطلاق استعراض تاريخي أو بحث في جذور ما حدث فعلًا في هذا اليوم، والذي يبقى وحده لغزًا من أعقد ألغاز العالم الذي نعيشه، لكنّه صورة لعلاقات نتصوّر –عربيًا- إنّها علاقات صداقة بين عاصمة عربية وواشنطن، فالواقع يقول إنّ واشنطن تريد توابع لا أصدقاء، وعلاقاتها معنا علاقات مصلحة تمضي في اتّجاه واحد فقط يضمن المصلحة الأميركية.
لم تعرف واشنطن الفاعل أبدًا في أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، لكنّها بالتّأكيد عرفت من أين تحصل على التّعويض، وفي المقابل فشلنا نحن في الخروج من دائرة قفص الاتّهام الدّائم بالمسؤوليّة أو المعرفة عمّا جرى، وبالتّالي فإنّ أزمتنا هي في قلب العلاقة مع الولايات المتّحدة، وإلّا فإنّ الاستنزاف الأميركي للقرار السعودي والكرامة السعودية مستمر حتّى إشعار آخر.
أمّا المستفيد الأكبر والأهم من الحادثة، فكان الكيان الصهيوني، الذي أدرك ساسته وحكّامه أنّهم أمام لحظة لا تتكرّر في التاريخ، فقدّموا أوراق اعتمادهم من جديد لدى واشنطن، على اعتبار أنّ الكيان وحده قادر على قيادة منطقة عربية مفكّكة، وتعادي مصالح الولايات المتّحدة، وإنّه حتّى في حال عدم تحقّق طلباتهم بالقيادة، فإنّهم ارتقوا بحكم الأمر الواقع من طرف محلّي شريك لواشنطن، إلى حليف كامل، يتوجّب على الولايات المتّحدة والغرب دعمه، طالما كان العدو أيضًا واحد.