(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
"أسمع عجيجًا ولا أرى طحنًا"، ربّما كان المثل العربي القديم واحدًا من أجدر الأقوال بأن يكون عربيًا وابن أمّته بحقّ، وحتّى اليوم لا يزال ينطبق على التصرّفات والسّياسات والخطوات، وتطيش حتّى الكلمات بعيدًا عن مقاصدها وتتعذّر قراءاتها، لتفقد للمرّة الأولى في التّاريخ العربي الكلمة قدسيّتها وجلالها، بعد أن تفقد قيمتها الدّلالية من الفهم والوصف والقرار، أو هي مجرّد عجيج، وحسب قول الفيروزأبادي تعني "الصياح والصّخب والدّخان".
فجأة، وفي منتصف أسبوع ساخن، خرجت قرارات مجموعة من القرارات الملكيّة، أعلنها الديوان الملكي باسم الملك سلمان، تتعلّق بتغييرات مفصليّة في الحكومة السعودية ومجلس الوزراء، تغييرات لها ما بعدها من أحداث، لكنّها في الوقت ذاته، خاصمت المنطق حين جاءت بكلّ هذا العنف والعمق، وكسر توازنات دقيقة، كان من المفترض الحفاظ عليها والانتصار لها لا عليها.
والمادة السادسة والخمسين من النظام الأساسي للحكم "الدستور السعودي"، تقول إنّ "الملك هو رئيس مجلس الوزراء ، ويعاونه في أداء مهامه أعضاء مجلس الوزراء، وذلك وفقًا لأحكام هذا النظام وغيره من الأنظمة، ويبيّن نظام مجلس الوزراء صلاحيّات المجلس فيما يتعلّق بالشؤون الداخلية والخارجية، وتنظيم الأجهزة الحكومية، والتنسيق بينها، كما يبيّن الشروط اللازم توافرها في الوزراء، وصلاحياتهم، وأسلوب مساءلتهم، وكافّة شؤونهم، ويعدّل نظام مجلس الوزراء واختصاصاته، وفقًا لهذا النّظام".
ما حدث هو أنّ الملك قرّر –ببساطة- تجاوز النّظام الأساسي، في سبيل تحقيق نصف انتقال للحكم إلى ولي العهد، وهو إن كان مرفوض قانونًا فإنّه يَعد ترجمة لعلاقات الحكم والسّيطرة الفعليّة في المملكة، منذ استبعاد الأمير محمد بن نايف عن ولاية العهد، وتفرّد ابن سلمان بكلّ السّلطات والصّلاحيات، وإسكات أي صوت بدا قادرًا على المجاهرة بالاعتراض أو حتّى بالنّقد.
والمشهد السعودي الدّقيق والحالي له عدّة وجوه، بعيدًا عن القانون أو الراسخ في طريقة الانتقال وشكلها، إذ أنّنا أمام مرحلة ينتقل فيها الحكم من أبناء الملك المؤسّس عبدالعزيز إلى الأحفاد، وبالتّالي فإنّنا أمام مرحلة جديدة تمامًا، لها قواعدها وأساليبها المُستدعاة فجأة من الخُطط إلى مرحلة الفعل الظاهر على صفحة الأحداث.
لعلّ كلّ ما يملكه ابن سلمان حاليًا يكمن في قدرة الجالس على العرش على تمرير ما يُريد وقتما يُريد وبالشّكل الذي يُريده، مثل ما حدث مع هيئة البيعة، التي أنشأها الملك السابق عبدالله في 2006، بهدف منع انفراد فرع واحد من العائلة المالكة بالعرش، ونزع القدرة على تغيير ولي العهد بإرادة الملك منفردًا، إلّا أنّه ومنذ صعود الملك سلمان للعرش، فقد تحوّلت الهيئة إلى ممر للقرارات الملكيّة، ولم تفعل سوى أنّها وقعت على كلّ ما أراده سلمان، بداية من استبعاد الأمير مقرن بن عبدالعزيز في 2015، ثمّ تعيين محمد بن سلمان ولي لولي العهد محمد بن نايف في العام ذاته، وصولًا إلى استبعاد ابن نايف في 2017، وتعيين ابن سلمان ولي للعهد.
وخطورة الرّهان على هذا الطّرح، تكمن أيضًا في مصدر قوّته الوحيد، وهو الملك، فانتقال ولاية العهد إلى ابن سلمان في حياة الأب ممكن ومُتاح، لكن كلّ هذا يفقد قيمته فورًا بموت الأب، فالشرعيّة كلّها هنا مرهونة بكلمة واحدة من رجل واحد، وإذا استطاع أعداء ابن سلمان –وهم كثر- التنفّس بحريّة بعيدًا عن وجود الملك الحالي، فمن المرجّح أن تكون التحديّات أمامه قد بدأت مع توليه الحكم رسميًا.
وأحد وجوه أزمة ابن سلمان مع الحكم يكمن أيضًا في تعدّد وسائل القوّة وأسلحتها في المملكة، فمن وزارة الداخلية التي تُدين بولائها للأمير الراحل نايف إلى الحرس الوطني وصولًا إلى الجيش، لا يبدو أنّ هذه التّقسيمة كلّها مضمونة الولاء للملك القادم، إلّا إذا كان يتمتّع أصلًا بولاء العائلة المالكة بأكملها، أو أغلبها على الأقل، ويمكن قراءة تلك الأزمة في تعيين الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف وزيرًا للداخلية، شراءً لولاء المؤسّسة الأمنيّة ورجالها، في مقابل إطلاق يد خالد بن سلمان كوزير للدّفاع، وتعيين عبدالله بن بندر كوزير للحرس الوطني القوي.
قد يكون القرار الجديد بتعيين محمد بن سلمان رئيسًا للوزراء، هو الاكتفاء بنصف انتقال، يدعم الوقت والزمن تثبيته كحقيقة على الأرض، وتمكّنه –إذا أحسن التصرّف وأحسنت إليه الظروف- من تثبيت دعائم ملكه بدعم من الأسرة ومن الشارع السعودي، لكنّه يبقى رهانًا على سراب، ووضعًا في أفضل الفروض لا يُطاق، إذ إنّه يحمل القصر والشارع والعائلة فوق ما تحتمله الأمور من تساؤلات وقلق، وفي اللّحظة التي سيسوء فيها الموقف، ستكون لحظة الانفجار أو الثورة لكلّ أطرافها.
والخوف من عمليات الانفجار/ الثورة، هي أنّ القائمين بها لا يحطّمون فقط قيودهم ولا يكسرون بها قوانينهم، لكنّها عمليّة إنسانيّة معقّدة، تأتي في أعقاب سيطرة القلق على الفكر ونفاذه إلى الأعصاب وشلّ كلّ قدرة على التّفكير السّليم والتبصّر بالعواقب، وهي قادرة على كنس كلّ الحدود والعوائق من وجه القائمين بها، وبالتّالي قدرتها الهائلة على إعادة تشكيل الواقع السياسي السعودي، بعد حقبة الملك سلمان.