خاص الموقع

لطمة أوبك

في 2022/10/07

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

يبقى حُكم الأيّام هو أكثر الأحكام صحّة ودقّة، وربّما حسمًا، فالأيام –الماضي- غير قابلة للاستعادة، ولا هي قد تجعل المستقبل محلًا للتعويض، وبحكم مناسبات الانتقال الفارقة في التاريخ الإنساني، أو هكذا نظنّه- يقف العقلاء، أو بعضهم على الأقل، ليمنحوا نفسهم نظرة شاملة طويلة على ما كان، ولتدبر ما هو آت، ما فاتهم وحل تاركًا ركّابه المتخلّفين في المحطّة، وما يتوجّب عليهم فعله وتغييره، ولو من باب "شرف المحاولة".

والوقفة على أعتاب زمن جديد، يوشك أن يظلّنا بظلّه، وطرق أبواب هذا الزّمن وهي مستقبل بكلّ ما يطويه من غموض، تستلزم أوّل ما تستلزم المعرفة بأنّ هذا المستقبل المجهول بطبيعته، مرغوب بحكم الحاجة والضّرورة والهدف، ومن أهم أدوات استشراف هذا المستقبل، هو إرادة ضرورية للفهم، ورؤية مطلوبة للفعل أو التغيير، في آن.

سماء العام الجديد ازدحمت، وقبل أوانها، بصيحات الحرب العالميّة الواسعة وأصدائها، والتّهديدات العسكرية التي لا تتوقّف، وتنظيرات التراجع ومسوّغاتها، وصرخات الاحتجاجات والمظاهرات، التي توشك على شقّ أوروبا شقًا، ونزعاتها اليمينية المتطرّفة تملأ الآفاق وتصمّ الآذان، ثمّ تخبو وتذوي في الفضاء الواسع، إن لم يكن بحكم قوانين الفيزياء، فبحكم معادلة السياسة وواقعيّتها والسيطرة التي خطفتها نخبة الحكم من الجماهير، تحت أكثر شعارات الديمقراطية بريقًا، وزيفًا.

ومع الضغوط الغربية الهائلة، والتي تمثّلت أهمها في زيارة الرئيس الأميركي إلى جدّة، لحضور مؤتمر الأمن الخليجي، وطلباته التي قدّمها بشكلٍ مُثير، بضرورة قيام المملكة العربية السعودية بزيادة ضخّ إنتاج النّفط إلى الأسواق العالمية، فقد جاء اجتماع "أوبك +"، نهاية الأسبوع الجاري، بلطمة جديدة على وجه العنجهيّة الأميركيّة، وفي خطوة غير مسبوقة بالنسبة لسياسة المملكة النفطيّة عمومًا، وسياساتها مع الولايات المتحدة بشكلٍ خاص.

ضغط وزير النفط السعودي، الأمير خالد بن سلمان، للخروج باتّفاق يقلّل إمدادات النّفط اليومية إلى الأسواق العالمية، بنحو مليوني برميل، وذلك استجابة مباشرة لمصالح الدول النفطية أولًا، وعلى رأسها السعودية، وفي تحدّ واضح لإرادة الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته.

ببساطة، قبل اجتماع أوبك مباشرة، كانت المعلومات من أسواق النّفط تتحدّث عن تشبّع المخزونات الأوروبيّة تمامًا، إضافة إلى حقيقة وجود الاحتياطي الأميركي الهائل، والكساد والتباطؤ الاقتصادي الذي يضرب أضخم الاقتصاديات الصناعية في العالم، الصين وجنوب شرق آسيا وقبل الجميع أوروبا.

بالتّالي كان من المنطقي، لو ترك الإنتاج الحالية على مستوياته الحالية، وهي مرتفعة جدًا بالمناسبة، أن نرى أسعارًا تدور حول 50 دولار للبرميل، وهذا الرّقم الأخير هو خلاصة تقارير شركة "Hawk Energy"، المتخصّصة في التوقّعات ومراقبة حركة الأسواق عبر العالم.

اليوم التالي مباشرة للاجتماع، عادت أسعار النّفط للارتفاع، لتتداول حول 94 دولارًا للبرميل، وهو ما يعني أنّ قرار أوبك كان صحيحًا، وكان نافذًا، وجاء في وقته تمامًا بالنسبة للتوقعات الأكثر تشاؤمًا التي تسيطر على الأسواق العالمية، مع نتائج أعمال ونمو أقل من المتوقّع في الصين، قاطرة الاقتصاد العالمي وأكبر مستورد للنفط على وجه الكوكب.

في الحقيقة، فإنّ القرار السعودي يبدو أوّلًا أنّه اتّخذ على قاعدة وطنية، فالدول الخليجية التي تعتمد على النّفط وتصديره، كمصدر أوّل للإيرادات في موازناتها، تعاني منذ 6 سنوات من لهاثها خلف الرّغبات/ الأوامر الأميركية، والتي ولّدت العجز عامًا بعد آخر بين الإيرادات والمصروفات، بحجج شتّى، ليس أوّلها النّفط الصّخري، ولا آخرها منع دخول إيران سوق النفط كلاعب من الوزن الثقيل.

الغريب أنّ الرّئيس الأميركي، بحث للمرّة الأولى عمّا ينقذ ماء وجهه المراق في السعودية، فنشر تغريدة على موقع التّواصل العالمي "تويتر"، قال فيها: إنّ "زيارتي إلى السعودية لم تكن متعلّقة بالنّفط"، وهو كاذب بالطّبع في هذه النقطة، إذ يعلم القاصي والداني، ومن لديه أقل قدرة على المتابعة والقراءة، أنّ زيارة بايدن ثمّ زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الخليج، كانت بحثًا عن بترول وغاز أرخص، عقب إغلاق المورد الروسي العملاق في وجههم.

نتيجة القرار المباشرة، والأهم، هي أنّ المملكة رأت الضوء أخيرًا وسارت إليه، مع تراجع المكانة الدولية للولايات المتّحدة، أصبح من المحتّم على كلّ طرف دوَلي أو إقليمي فاعل أن ينظر لمصالحه المباشرة أوّلًا، وها هي قارّة أوروبا بكاملها تمزّقها الحركات الاحتجاجيّة والواقع الاقتصادي المتردّي، بسبب انخراطها الأعمى في تنفيذ سياسة بايدن بعزل روسيا، والذي اتّضح مع سير الأحداث أنّ عزل وسجن كبير لأوروبا، لا لروسيا.

والنتيجة الثّانية، والسعيدة، هي أنّ الموازنة السعودية ستستمر في جبر العجز الذي حدث خلال الأعوام الستّة الماضية، فعند سعر 70 دولارًا لبرميل النّفط الواحد، تحقّق الموازنة السعودية التّعادل بين العائدات والمصروفات، وكلّ ما هو فوق ذلك، يحقّق المزيد من الوفر والأرباح الكبيرة.
وينبغي التّذكير، أنّه وللمرّة الأولى منذ 6 سنوات كاملة تحقق الموازنة السعودية فائضًا فصليًا –في 3 شهور- ثمّ استمرّت العجلات بالدوران، لتحقّق فائضًا هائلًا في النّصف الأوّل من عام 2022، بنحو 135 مليار ريال، تقدّر بـ 7% من الناتج المحلي الإجمالي، وبتقديرات متفائلة أن تصل في نهاية العام الجاري إلى 335 مليار ريال، مدفوعة بارتفاع الإيرادات العامّة إلى 1338 مليار ريال، بنسبة زيادة 38% عن العام المالي الماضي 2021.

ما فعلته المملكة ببساطة، هو أنّها –للمرة الأولى- استخدمت أوراق قوّتها لتحقيق مصالحها أوّلًا، بغض النّظر عن المصالح الأميركية، والأخيرة تحقّق أهدافها بطرق غاية في الحقارة والبلطجة على الحلفاء، كما صرّح بذلك وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، والذي كشف أنّ الدول الصديقة، ومن بينها الولايات المتّحدة، تطالب بأسعار خياليّة لتزويدهم بالغاز الروسي قبل الشتاء المرعب.

 هذه السياسة، إن كانت سياسة وطنية كاملة، قرّرت السير والرّهان على المصلحة الوطنية أولًا، لا بدّ أن تضع في اعتبارها أنْ الولايات المتّحدة لم تعُد هي الدّولة الأولى، كليّة الهيمنة والجبروت على الكوكب، وأنّ عنوان هذه الدولة "الدولار"، تعرّض لضربات هائلة خلال العقود الأخيرة، جعلت من مكانته محل ترقّب، إن لم نقل محلّ شكّ عميق، حتّى بين أقرب الحلفاء.

وتقارير صندوق النّقد الدولي، الصادر مؤخّرًا، يكشف أنّ حصّة الدولار الأميركي من احتياطيّات البنوك المركزية، في العالم، قد شهدت انخفاضًا مروّعًا، خلال 20 سنة فقط لا أكثر، ففي العام 1999، قبل بداية القرن الجديد، كان ثلثا الاحتياطيّات الأجنبية في البنوك المركزية الوطنية من الدولار الأميركي، بينما تراجعت هذه الحصّة في عام 2020، إلى أقلّ من النّصف 48% فقط، بالتزامن مع تراجع الاقتصاد الأميركي كمًا وكيفًا، عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة كان الإنتاج الأميركي يمثّل 48% من كامل الإنتاج العالمي، واليوم هو أقل من 19%، وهو شاهد أرقى على تراجع شامل للقوّة الأميركية، بكلّ أوراقها وسياساتها، وقدراتها على أن يكون أمرها كن فيكون، كما كان في عصر سابق.

مرّة أخيرة.. إذا كان القرار السعودي يمثّل تغييرًا في الرؤية، ووضعًا لرهانات جديدة على طاولة السياسة الدولية، بدلًا من المراهنة على قطب أوحد، آخذ في التّداعي، أو هو ما يظنّه أغلب المحليين، فإنّها خطوة تستحق الإشادة، على الأقل للتخلّص من قدرة الأميركي على الفعل في الأرض العربية، وبالأموال العربية، وليتوقّف أخيرًا عن التلاعب بالمملكة، وركوبها مطيّة سهلة لتحقيق أهدافه العدوانية.

أخلص أتباع واشنطن اليوم يُعيدون حسابات الرّبح والخسارة من الصداقة الأميركيّة الطويلة، والمؤذية، ونتمنى مرات ومرات، أن تكون هذه سياسة العمل الوطني كلّه في الفترة المقبلة، ليس كراهية في بايدن, وحظوظه في 4 سنوات أخرى محل شك دائم، ولكن من أجل مصالحنا وثرواتنا.