(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
يبدو أنّ صندوق النّقد الدولي قرّر فجأة أن يتخلّى عن دوره المُعتاد في أن يكون البومة ناشرة الخراب من على شجرة ميتة، ينعق مهدّدًا بالكساد والتضخّم والعجز والمستقبل الأسود، بل وتغيّر خطابه إلى درجة أنّه بات الملاك الحامل للآمال والتوقّعات الإيجابيّة بشأن الاقتصاد السعودي، والمصمّم على نشر التّفاؤل والتّبشير بسنوات الرّخاء المُقبلة.
نشر صندوق النّقد الدولي أحدث توقّعاته لأداء الاقتصاد السعودي، ضمن تقريره السّنوي "آفاق الاقتصاد العالمي"، في نهاية شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، وكشف التّقرير الغارق في التّفاؤل واعتماد أكبر الأرقام المرجّحة، عن تجاوز النمو الاقتصادي السعودي أي دولة أُخرى في مجموعة العشرين "G 20"،
من حيث المعدّلات المحقّقة في 2022 وحدَه، ورفع توقّعاته لنمو الاقتصاد السعودي ليثبتها عند 7.6%، بعد أن يتوقّع رقمًا أقل في تقريره تشرين الثاني/ يناير الماضي، والتي أشارت إلى نمو متوقّع للنّاتج المحلّي الإجمالي الحقيقي السعودي عند 4.8%.
ورفع صندوق النّقد الدولي، في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، معدّلات نمو الاقتصاد السعودي المتوقّعة لعام 2023 إلى 3.7%، ليرفعها عن توقّعات نيسان/ إبريل الماضي والبالغة 3.6%. مع تحقيق نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للمملكة عند 3.2% خلال العام السابق 2021.
كانت لافتة التوقّعات، وقوية، وصدورها من جانب صندوق النقد الدولي بالذات يزيدها ثقة في اقتصاد المملكة، مع إعلان إضافي عن سعر برميل النّفط اللازم لتعادل الموازنة عند 66.8 دولارًا فقط انخفاضًا من 70 دولار، وهو ما تتفوّق فيه المملكة على الجزائر (149 دولار/ للبرميل)، والبحرين (121 دولارًا/ للبرميل) وعمان (75 دولارًا /للبرميل)، بينما تتفوّق الإمارات، العراق، الكويت، ليبيا وقطر، في هذا الجانب المالي.
كلّ ما فات رائع، لكنّه في الواقع صورة واحدة لعملة من وجهين، أي أنّه يستثني أنّ ارتفاع أسعار البترول دفع بالموازنة السعودية للمنطقة الخضراء، وحقّق هذه الفوائض كلّها، وفي حال تحقّقت توقّعات الصندوق التي تقترب من الأرقام المتوقّعة من جانب الحكومة السعودية وتدور أيضًا حول 8%، فإنّ المملكة ستحقّق معدّل النمو الأكبر من 12 عامًا، بالتّحديد منذ موازنة العام 2011.
ومع هذه الفوائض ومعدّلات النمو الضّخمة، قرّر ولي العهد السعودي أنّ الخطوة قد حانت نحو أحد أهداف "رؤية المملكة 2030"، والتي كادت تُنسى، بإعلان إنتاج قريب لأوّل سيارة سعودية كهربائية "ذكيّة، وأطلق علامية سير "CEER" الجديدة وسط حفاوة بالغة من الإعلام الرّسمي.
السيّارة السعودية الجديدة تصلح بالفعل كعنوان للهدر والتّبديد، وتعدّ نموذجًا وشاهدًا أرقى على عملية شراء تكنولوجيا جاهزة من الغرب، ثمّ الإدّعاء بكونها صناعة سعودية، دون أي نظام منتج قائم من قبل، هي مشروع جديد وجيّد، لكنّه قادم من الفراغ الذي لا يسنده شيء، وذاهب كعادة هذه المشروعات الفرديّة إلى الصّفر الفارغ.
ستقوم شركات ""B.M.W الألمانيّة الشهيرة، وشركة "فوكسكون" التايوانيّة، ببناء المصانع وتشغيلها، وإمدادها بالعمالة الفنيّة والمهندسين وأعضاء الإدارات التنفيذيّة، طبقًا لمشروع الشّراكة مع الصندوق السّيادي السّعودي، أمّا عن خلق صناعة حقيقيّة وسعوديّة للسيّارات، فهي آخر ما تمّ التّفكير به.
في التّجربة الجارية لعمليّة التّغيير في السعودية، ولا أقول الإصلاح، شأنها شأن أي عمل إنساني وسياسي، كثير جدًا ممّا يستحقّ النّقد ويستوجب التّصحيح ويستلزم التوقّف عنده، وفي أيّة عمليّة سياسيّة، فإنّ الفرز واجب والتقويم حقّ والحساب واجب وضرورة أساسيّة لا غِنى عنها، وإلّا تحوّلت السّلطة من شرعيّة إلى إلهيّة لا يجوز الاقتراب منها ولا مساءلتها.
والأخطر في مثل هذه الأحوال، أنّ السلطة كلّها تتحوّل إلى منفّذًا لأمر رجل، ومهما بدا من علامات عبقريّته أو صدق رغبته، ومهما طالت عمليّات الإصلاح المفترض، فكلّها دائرة حول أحلام شخص، قادر على تبديد كلّ الأصول مقابل الحصول على ما وعد الناس به، إنّها مشروعات كثيرة جدًا في التّاريخ الإنساني، كان مصيرها الفشل أو النّسيان، أو التّدمير الكامل.
المراجعة إذًا مطلوبة، وبشدّة، وتصحيح التّجربة وإصلاحها واجب، لكن التصحيح يبدأ من الاعتراف أوّلًا بأنّ هناك مشاكل وأزمات عند القاعدة، وغياب شبه تام للإستراتيجيّة الوطنيّة العليا، مع عقبات في تفاصيل وإجراءات عمليّات التّغيير الجارية الآن، وشطط في ممارسة الإدارة اليوميّة للبلد، يجعل من السلطة سيفًا مسلّطًا على الرّقاب وليس أداة ضمن أدوات قيادة العمل الوطني وممارسة المسؤوليّة، بشكلٍ يبعد عنها أن تكون بالأصل عمليّة إصلاح مُتكاملة.