(أحمد شوقي\ راصد الخليج)
رغم التغيّرات البارزة التي حدثت في المجتمع السعودي بعد تولّي ولي العهد محمد بن سلمان السّلطة الفعليّة، إلّا أنّ رصدًا دقيقًا لم يحدث لعمق التغيّرات وتجذّرها، وقد خضعت التغيّرات لسجالات بين انتقادات حادّة وبين دفاع وتملّق للأمير يحاول تصوير تغييراته بالتّحديث والتّنوير.
كما خضعت السياسة الخارجيّة لتقييمات متباينة بين من يرى أنّها مجرّد مناورات لجلب الاعتراف الامريكي بشرعية ولي العهد الطّامح لتولّي العرش، وبين من وصفها بتحدٍّ حقيقي لامريكا وربّما التفاتة نحو الشّرق، ناهيك عن موضوع التّطبيع وما يدور حوله من غموض، حيث تتناقض الشّواهد التي تخدم اقترابه وتطوّره مع التّصريحات السعوديّة الدّائمة النّفي لذلك.
وعبر عيون أمريكيّة، نظّم معهد واشنطن، وهو من أكبر مراكز الفكر الأمريكيّة، رحلة لباحثيه لمدّة أسبوع، ونشر تقريرًا مفصّلاً عما تمّ رصده.
وربّما نبدأ هنا من خلاصة التّقرير، قبل استعراض أهم ما جاء به، حيث خلص التقرير إلى أنّه لا يسَع الزّائر إلّا أن ينبهر من وتيرة التحوّل المستمر في السعودية ونطاقه ومضمونه. ولربّما كانت العديد من هذه التّغييرات من المسلّمات بالنسبة إلى الأمريكيين (مثل رفع الحظر عن الموسيقى العامّة)، لكنّها ثورية في السياق السعودي. والمفارقة هي أنّ المملكة لديها مساحة أكبر بكثير للحرية، ولكن ليس للمعارضة. ونظراً لأنّ الحرية تنتج المعارضة بشكلٍ طبيعي، فإنّ حلّ هذا اللّغز سيكون أحد التحديات الرئيسيّة للرياض في السنوات المُقبلة.
وقبل رصد أهم ما جاء بالتّقرير، من المهم إلقاء الضوء على بعض تفاصيل الزيارة كما أوردها المعهد، حيث استمرّت زيارة الباحثين لمدّة سبعة أيّام، زار الوفد بها خمس مدن هي الرياض، وأبها، والدّمام، والعلا، وجدّة، حيث تنقّل في جميع أنحاء المملكة لمشاهدة مختلف التّضاريس والجغرافيا، ومراقبة مختلف جوانب المجتمع السعودي والثّقافة، وتقييم وضع الإصلاح السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثّقافي. وبالإضافة إلى لقاءاته السياسية، أمضى الوفد أمسية مع فنّانين في صالة عرض مُعاصرة، وقام بزيارة مركز الذّكاء الاصطناعي بـ "جامعة الملك سعود" والتقى بمجموعة مختلطة من الطلاب والطالبات، وزار مركز ترويج المشاريع الصغيرة والمتوسّطة والتقى برواد أعمال مبتدئين في مجال التقنية المتقدّمة؛ وزار المقر الرئيسي لشركة "أرامكو" للاجتماع مع قيادات الشّركة والاطلاع على عمليّاتها. كما سافر لرؤية الآثار النبطيّة في العُلا، وهي هدف رئيسي للاستثمار السياحي؛ وزار "مشروع داريا الضّخم" بالرّياض، وهو موقع ضخم تابع لمنظّمة "اليونسكو" حيث يُعيد السعوديون كتابة قصّة أصلهم القومي؛ وقضى الوفد أمسية وصفها بالممتعة في منطقة "البوليفارد" بمهرجان "موسم الرّياض"، حيث كان آلاف السعوديين يلعبون ويأكلون ويستمعون إلى الموسيقى.
وخلال الرّحلة، التقى الوفد مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ومجموعة من المسؤولين الآخرين، هم: وزير الدّفاع، ووزير الخارجية، ووزير الدولة للشؤون الخارجية، والأمين العام لـ "رابطة العالم الإسلامي"، ورئيس "قيادة القوات المشتركة" ونشطاء من"مفوضيّة حقوق الانسان" والعديد من الدبلوماسيين الأمريكيين والبريطانيين.
وقد لخّص التّقرير ملاحظاته في خمسة عناوين هامّة ولافتة:
1- المظالم: .حيث أقرّ كبار قادة السعودية بارتكاب أخطاء جسيمة مثل مقتل جمال خاشقجي، لكنّهم اشتكوا من أنّه يتمّ انتقادات المملكة "عشر مرات" أكثر من الدول الأخرى التي ترتكب انتهاكات مماثلة أو أشدّ خطورة، كما أعربوا عن امتعاضهم ممّا يؤمنون بأنّه عدم مبالاة الولايات المتّحدة إزاء المخاوف الأمنيّة السعودية، في إشارة بشكلٍ خاص إلى سحبها لمنظومة الدّفاع الجوّي التي ضمّت صواريخ من نوع "باتريوت"، وقرار إزالة جماعة الحوثي اليمنيّة من قائمة المنظّمات الإرهابيّة الأجنبيّة لوزارة الخارجية الأمريكيّة، وتعليق تسليم أنظمة الأسلحة التي دفعت الرّياض ثمنها أساساً
2- الطّموح:. حيث تقوم استراتيجيّة الأمن الوطني السعودية على النّمو، ويبدو أنّ طموح القيادة في هذا الصّدد مُثير للإعجاب. فقد أعرب كبار القادة عن فخرهم الكبير بأنّ اقتصاد المملكة هو الأسرع نمواً ضمن دول مجموعة العشرين (بمعدّل 7.5-8٪)، ممّا أدّى إلى زيادة "النّاتج المحلّي الإجمالي" إلى أكثر من تريليون دولار مع الحفاظ على معدّل تضخّم يُحسد عليه بنسبة 2.5٪ فقط.
3- الهويّة:. حيث كان أحد الجوانب الأكثر لفتاً للانتباه في الرّحلة هو رؤية ظهور قوميّة سعودية قويّة وواثقة من نفسها، يشكّل الإسلام فيها إحدى سماته العديدة فقط، وليس عاملاً حاسماً أو أساسياً بشكلٍ خاص. وحرص السعوديون على إثبات حسّهم القومي هذا عبر عدّة أمثلة، على غرار: مشروع "بوابة الدّرعية" في الرّياض الذي يروي قصّة نشأة أوّل دولة سعودية قبل 300 عام من دون الإشارة إلى التّسلسل الهرمي الديني؛ ومجمع مقرّ "أرامكو" المصمّم ليعكس الكفاءة والاحترافيّة؛ والعلا التي تعرض إنجازات الحضارة ما قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربيّة.
4- الطّاقة:. حيث تحمل هذه الكلمة معنى مزدوجاً بالنسبة للسعوديين اليوم: الطّاقة بمعنى النّفط، الذي تُراهن الرياض على بقائه العنصر الأساسي في النمو العالمي لعقود عديدة على الرّغم من التحوّل الكبير نحو مصادر الطّاقة المتجدّدة؛ والطّاقة من حيث الدّافع البشري نحو الإبداع والابتكار والنمو، وهو ما لوحظ في العديد من الأماكن، بدءاً من الجامعات وإلى الشركات التقنيّة الناشئة.
5- الغموض:. على الرّغم من هذا التقدّم المُبهر الذي أحرزته المملكة، إلّا أنّه لا تزال هناك العديد من الأسئلة. ويتعلّق أحدها بـ "الخاسرين" من الإصلاحات الحالية - أي شرطة الآداب (الأخلاق) والقادة الدينيين المُحافظين الذين جُرّدوا من سلطتهم وصلاحيّاتهم، إلى جانب آخرين من الجيل الأكبر سناً الذين يشكّل التّغيير بالنّسبة لهم اضطراباً وخطراً. فما هو موقف هذه الأقليّة من مستقبل المملكة الحافل بالتقدّم والانفتاح؟ لماذا تلتزم الصّمت، وما الذي قد يدفعها إلى معارضة التّغيير المستمر؟ وسؤال ثاني يتعلّق بموضوع حقوق الإنسان الجدلي بشكلٍ مستغرب. فعلى عكس مُقاربة الرّياض المصقولة والمدروسة إزاء العديد من المواضيع الأُخرى، يبدو أنّ النّقاش الرّسمي بشأن حقوق الإنسان لا يزال غائباً. كيف يُمكن للمملكة أن تكون رائدة في العديد من مجالات الإصلاح ومتخلّفة للغاية في هذا المجال؟
وربّما أهمّ ما جاء بالتّقرير، هو ما يتغلّق بالتّطبيع مع العدو الإسرائيلي، حيث يقول التّقرير أنّه، وقبل خمس سنوات، عندما زار وفد مماثل من معهد واشنطن الرياض، سمع أنّ القيادة العليا تصف "إسرائيل" بأنّها "حليف مُحتمل". وحالياً نرى أدلّة على موجة زاحفة من التّطبيع في كلّ مكان، حيث بدأ رجال أعمال ومصرفيّون ورياضيّون بزيارة المملكة بصفتهم المهنيّة.
ويُضيف التّقرير، أنّه ومع ذلك، يُخطئ من يستخلص أنّ التّطبيع الكامل أصبح قاب قوسين أو أدنى. ولا يرجع ذلك إلى عدم إحراز تقدّم في القضيّة الفلسطينيّة، بل يُعزى إلى واقع أنّ التّطبيع - رغم أنّه مُفيد بالتّأكيد للسّعوديين - أقل أهميّة بالنّسبة لهم ممّا كان عليه بالنّسبة للدّول التي وقّعت على "اتّفاقيات إبراهيم". فمن جهة، سيتعيّن على المملكة التّعامل مع إصلاحات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة رئيسيّة أُخرى، وعليها النّظر بعناية في طريقة تطبيقها وترتيبها. ومن بين الإصلاحات، نذكر اثنين على جدول الأعمال هما رفع الحظر المفروض على تناول الكحول (والذي سيبدأ على الأرجح في المناطق السياحية المحظورة حيث يُسمح بذلك) والسّماح بتنظيم الصّلوات لغير المسلمين. (على الأرجح نتيجة لمتطلّبات الرّياض بأن تنقل الشّركات الكبرى مقارّها الإقليميّة إلى المملكة من أجل القيام بأعمال تجاريّة مع الحكومة). ولا يمكن لأي مجتمع أن يقوم بالكثير من الإصلاحات في وقتٍ واحد، والتّطبيع مع إسرائيل يتنافس مع هذه التحسّنات.
وكشف التّقرير أنّ الوفد سمع بعض الملاحظات الجديرة بالاهتمام في هذا الصّدد، من بينها اقتراح من مسؤول سعودي رفيع المستوى بأنّ التّطبيع قد يحصل بسرعة أكبر إذا كانت الولايات المتّحدة على استعداد لاتّخاذ ثلاث خطوات رئيسية تجاه المملكة:
أوّلًا: تأكيد مصدّق من الكونغرس على التّحالف الأمريكي-السعودي.
ثانيًا: التزام بمواصلة إمدادات الأسلحة كما لو كانت السعودية دولة عضو في حلف "الناتو" .
ثالثًا: اتفاقيّة تسمح للسعوديين باستغلال احتياطيّاتهم الهائلة من اليورانيوم في برنامج نووي مدني مقيّد.
ربّما يُلقي هذا التّقرير الضّوء على متغيّرات عميقة بالسعودية ويُجيب على الكثير من الأسئلة الحائرة ويفسّر الكثير من المُمارسات.