(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
من جديد عاد مسؤولو صندوق النّقد الدولي إلى قرع طبول الخراب وإطلاق التّحذيرات شديدة التّشاؤم والسوداويّة بشأن المُستقبل القريب، وجاءت الفُرصة هذه المرّة مع انطلاق قمّة العشرين "G 20"، في بالي بإندونيسيا، وببيان مروّع عن توقّعات "أكثر كآبة" ممّا كان متخيّلًا، مع استمرار مؤشّرات ارتفاع التضخّم وانتشارها كعدوى بين دول العالم.
وقال بيان لصندوق النّقد الدّولي، تمّ إعداده خصّيصًا للعرض على قادة مجموعة العشرين، إنّ التّدهور المُتزايد في استطلاعات مديري المُشتريات، خلال العام الحالي، قد أدّى بالصّندوق إلى تبنّي توقّعات اقتصاديّة عالميّة أكثر إحباطًا ممّا كان مخطّطًا، مع استمرار تداعيّات أزمة الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، وتأثيراتها العالميّة على أسعار السّلع الأوّلية والطّاقة، بالإضافة إلى عدم التّعافي الكامل من جائحة كورونا.
أشار بيان الصّندوق إلى أنّ 3 عوامل أساسيّة تجمّعت وامتزجت، لتؤدّي إلى مشهد عالمي قاتم، ينتظر تدخّلات حاسمة من زعماء دوَل العشرين الكبرى، وهي استمرار البنوك المركزيّة حول العالم في تشديد السياسة النقديّة، مع امتداد مؤشّرات التضخّم المرتفع واسع النّطاق، ثمّ الضّعف البادي على الاقتصاد الصيني، وقلّة توقّعات نمو العملاق الآسيوي، وأخيرًا الخلل المستمر في سلاسل الإمداد بفعل الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، وانعدام الأمن الغذائي العالمي.
وختم بيان الصّندوق بتوقّعات بائسة للنمو الاقتصادي العالمي، حيث قال إنّ النمو الاقتصادي سيشهد تراجعًا بالغًا إلى 3.2% فقط في عام 2022، وسيتراجع أكثر في العام المُقبل 2023، إلى 2.7% فقط، بينما كانت نسبة النمو المتحقّقة في 2021، هي 6%، وكذلك سيشهد التضخّم ارتفاعًا قياسيًا إلى 8.8% في 2022، مقابل 4.7% في 2021، قبل أن يُعاود الهدوء في 2023 عند 6.5%، ثمّ 4.1% في 2024.
بيان الصندوق ليس جديدًا ولا هو مفاجئاً، فالتوقّعات في كلّ أسواق العالم تُشير إلى احتمال دخول نفق الركود الكئيب والمُظلم، وفي هذا الوقت العصيب تُصبح كلّ السياسات الاقتصاديّة وما يتبعها من تأثيرات اجتماعية مرعبة تحت مجهر البحث والسؤال، سؤال عن الجدوى والأولويّات وحتّى الأهداف الوطنيّة الكبرى المطروحة على مائدة صانع القرار.
وهناك نقطة أخرى مخيفة، ينبغي الإشارة لها في خِضَم الأزمة التي تعصف بالاقتصاد العالمي، وهي الخاصّة بالتّحذيرات الأخيرة من دخول العالم نفق الرّكود التضخّمي، إذ أنّ التضخّم غير المسبوق المتحقّق في عدد من دول العالم، إن استمر على وتيرته المرتفعة الحالية، يهدّد بالانتقال إلى الحالة الأسوأ، فالتضخّم المرتفع والمُستمر لمدّة زمنيّة كافية، يكون عاملًا أساسيًا في تآكل الدّخول الحقيقيّة للطّبقات الفقيرة والمتوسّطة، بل وفوق المتوسّطة، بما يعني تجريد جزء مهم من الجهاز الإنتاجي من عملائه وتقليص فرَص نموّه، مع دفع هذه الطّبقات باتّجاه تلبية الحاجات الأساسيّة أوّلاً وفقط، وهو ما يشلّ العمليّة الاقتصادية برمّتها، ويقتضي سنوات من الإجراءات الصّعبة والمتشابكة لحلّ الأزمة وإعادة الأمور إلى صوابها.
والسّؤال المُلِح الآن، قبل غيره، هو هل قدر لنا أن ندخل عميانًا مستسلمين إلى هذه المرحلة المُرعبة، بقَسوتها وعنادها، وهل داهمتنا أسبابها بين عشيّة وضُحاها، في الحقيقة وبالتّحليل المجرّد، فإنّ كلّ الظّواهر التي تُهدّد المُستقبل لها أسبابها، وكلّها لم تولد في الفراغ، بل هي الميراث الشّرعي الوحيد لعمليّة "التّطوير والتّحديث" التي تتبنّاها المملكة، وعملية الإصلاح التي اتّخذت مسارًا معينًا ومستمرًا خلال السّنوات الفائتة، تحت قيادة ولي العهد محمد بن سلمان، وبالتّالي يُصبح من السّذاجة أن نقف عند حدّ التّساؤل، كيف نزيح هذه الظواهر أو بعضها باقتلاع أسبابها المباشرة، ويبقى السؤال الوحيد المُنتج، هو كيف نَقتلع جذور ما نُعانيه من ظواهر من مسار تطوّرنا الاقتصادي والاجتماعي، فهذا المسار هو المسؤول الأوّل والأخير عن ظهورها وتطوّرها.
وكما أوضح الاقتصادي الأميركي الشهير بول كروغمان، الحائز على نوبل للاقتصاد، فإنّ مناقشة وضع أي مجتمع ينبغي أن يأخذ في حسبانه 3 عوامل أساسية، الإنتاجية- توزيع الدّخل- البطالة، كأساس للتطوّر الموضوعي الاقتصادي والاجتماعي، فاتّجاهات المتغيّرات الثّلاثة هي المقياس الدّقيق للنّجاح أو الفشل، وبما يتّفق ومقتضيات عمليّة تنمية شاملة، أمّا غيرها من مؤشّرات فائض أو عجز الموازنة والتضخّم والنمو السنوي، كلّها تبقى فروعًا دون الأصول، ونتائج أكثر منها أسبابًا للتخلّف الاجتماعي القائم، والمستمر.
وكما في أزمة "كورونا"، وكما حدث ويحدث وسيحدث في كلّ أزمة عالمية، فإنّ من يمتلك غذائه ومن يستند إلى صناعته، بإمكانه النّجاة بأقلّ التّكاليف وبأيسر السّبل، هذا هو الدّرس الأوّل والمتجدّد في كلّ عاصفة، وكلّ منحنى على الطّريق الوعر، وليت كلّ مسؤول سعودي يعرف حجم التحدّي العالمي القائم اليوم، دون تزييف أو تجميل للحقائق.
في هذا الوقت الصّعب، وخلال زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى كوريا الجنوبية، قرّر أن يوقّع على اتّفاقات اقتصاديّة ضخمة وهائلة، في مجالات عدّة، منها الاتّصالات والنّقل الذّكي، لخدمة مدينة "نيوم" الجديدة، لكن الخبر الأكثر إثارة كان إعلان شركة أرامكو ضخ 7 مليارات يورو في وحدتها الكورية الجنوبيّة "شاهين"، لإنشاء مصنع للبتروكيماويات عالية القيمة، في مدينة أولسان الساحلية.
الغريب والمُثير للدّهشة والعجب، هو أنّ ولي العهد قرّر استثمار المليارات في إنشاء مصنع بدولة أخرى، ونسي فجأةً أنّ المملكة التي يقودها –أو يُسيطر عليها بشكلٍ أدق- أحوج ما تكون في هذه الفترة إلى كلّ ورشة وليس مصنع، يكفل لها الاعتماد على قدراتها الذّاتية في وجه المُناخ العالمي الصّعب والمتقلّب بشدّة.
كم شابًا كان يُمكن أن يوظّفهم مصنع شاهين في المملكة، مع بلوغ نسبة البطالة أكثر من 9.7%، وفقًا للأرقام الرّسمية من مكتب الإحصاء السّعودي، وتوقّف التّشغيل للخريجين الجدد، وكم منطقة كان يُمكن أن تستفيد من بِنية أساسيّة وصناعيّة هائلة سيجري الإنفاق عليها في أقصى جنوب شرق آسيا، هل كان يُمكن أن تستفيد منها أحياء العاصمة الدينيّة والمدينة الأقدس لدى المسلمين "مكّة المكرّمة"، ومنها على سبيل المثال أحياء عشوائيّة، تضمّ عشرات الآلاف من الفُقراء والمعدَمين وتضربها البطالة والفَقر والجَهل، منها أحياء النكاسة والمسفلة وحوش والحجون، أو أحياء العصبة والسيح والمغيسلة بالمدينة المنوّرة، مع بلوغ الفَقر نسبًا قياسيّة في المملكة عند 12.5%!