خاص الموقع

حَصَاد 2022.. السعوديّة في أزمة

في 2022/12/23

(أحمد شوقي\ راصد الخليج)

للرّوائي الإنجليزي ذائع الصّيت جوناثان سويفت مقولة كرّرها في عدد من أعماله المَنشورة، وهي أنّ البصيرة فنّ رؤيةٍ ما لا يستطيع الكثيرون رؤيَته، وقد عدّها أحد أُسس الحكم، ورُغم أنّ سويفت أصلًا اشتُهِر كمؤلّف ساخر وذاع صيته عبرَ رواية "رحلات غوليفر"، بل وعد أعظم كاتب ساخر بالإنجليزية، إلّا أنّ الحِكمة التي أطلقها تُعدّ هي الأُخرى واحدة من أهمّ الوصَفات على مَنهج الحكم وإستراتيجيّة القيَادة.

والواقع أنّ الرّؤية ليست رفاهية في حياة الأُمَم والشّعوب والمَسار التّصاعدي لتطوّر المُجتمعات، بل هي ألزم الشروط للكفاءة والقُدرة، فالحاكم –فضلًا عن الفرد العادي- لا يتوجّب عليه دائمًا مُواجهة المُشكلات والبَحث عن حلول لها، بل الأسلم والأفضل أن تمنَحه البصيرة النّافذة قدرًا من المرونة، يتجنّب به بالأساس الأزمات، وإلّا تحوّلت فترة حُكمه إلى فترة طويلة من المُفاجآت، يتلو بعضها بعضًا، وهي كلّها أوّل الطّريق إلى الحوادث الصّادمة والمُخيفة.

على المُستوى الاقتصادي، وفي الأوراق والتّقارير والتّحليلات المنشورة، ما يقول بأنّ المملكة تعيش أزهى فتراتها منذُ أعوام طويلة، أوّل فائض في الموازنة منذ 9 سنوات كاملة، وأسعار مُرتفعة للنّفط طوال العام الجاري انعكست على الإيرادات الهائلة المحقّقة وارتفع الفائض التّجاري طوال شهور العام ليلامس نسبًا قياسيّة، مع زيادة حجم الصّادرات وقيمتها.

خلال العام الجاري 2022، كشفت الهيئة العامّة للإحصاء عن ارتفاع فائض الميزان التّجاري، وهو يَقيس الفارق بين الصّادرات والواردات، بنسبة قياسيّة في حزيران/ يونيو 2022 مسجّلًا 137.8%، بقيمة 88 مليار ريال، نتيجة لارتفاع صادرات المملكة إلى العالم بنحو 75.2%، لتصل إلى 147.7 مليار ريال، مُقارنة بنحو 84.3 مليار ريال فقط في حزيران/ يونيو 2021.

فائض الموازنة السعوديّة هو الآخر عرف أخيرًا طريقه إلى اللّون الأخضر، وطبقًا لبيانات وزارة المالية، فإنّ موازنة عام 2022 حقّقت فائضًا -هو الأوّل منذُ 2013- يبلغ 102 مليار ريال، أي نحو 2.6% من النّاتج المحلّي الإجمالي، بعد ارتفاع الإيرادات إلى 1.114 تريليون ريال، بل وأكّدت وزارة الماليّة استمرار تحقيق عوائد حتّى العام المالي 2025، بمتوسّط يبلغ 71 مليار ريال.

لكن وبكلّ أسف، هذه الأرقام المجرّدة والمُعادلات الرّياضية لم تتحوّل من صيغتها الإحصائيّة والعلميّة إلى واقع في المملكة، فالظّاهر وعبرَ كلّ الأرقام الرسميّة المُعلَنة أو التّقديرات، أنّ المؤشّرات الحقيقيّة والتي تهمّ المواطن العادي وتتماشى مع واقعه وأيّامه تبدو على العكس تمامًا من أرقام الحكومة، فالأخضر لم يعرف طريقه إلى الشارع، واللّمبات الحمراء مشتعلة والأجراس كلّها تدوي في ضراعة وذهول.

نسب التضخّم انفلتت فوق كلّ توقّع، وزاد معها أنين الطّبقات الأقل قُدرة على ضمان حقّهم الطّبيعي في الحياة، ونسب البطالة هي الأُخرى تشهد ارتفاعًا عامًا بعد آخر، وباتت قنبلة موقوتة في كلّ بيت، والمرتّبات الهَزيلة على حالها في مواجهة الأسعار، وهي إن بدَت كافية اليوم لضروريّات الحياة وأساسيّاتها، فإنّها غدًا لا تسمن أمام الغول المنطلق في زهو وتحدي كاملين.

نسبة الفقر هي الأخرى في المملكة لا تزال عند 10% من إجمالي عدد السكان، وهي نسبة متفائلة على أقصى تقدير، ورغم إنها تعد من المحرمات في المملكة، إلا أن واقع الحال يشير إلى زيادة واضحة في أعداد الفقراء، مع الموازنات السابقة، والتي كبحت كثيرًا من الإنفاق العام، بحجة العجز تارة، أو الكساد العالمي تارة أخرى.

ونسَب البطالة في المملكة، وفقًا للأرقام الرّسمية الصّادرة من الهيئة العامّة للإحصاء، تقول إنّها وصلت إلى 9.7% من عدد السكّان في الرّبع الثاني من العام الجاري 2022، وهي نسبة مُرعبة وقُنبلة موقوتة، تزداد شُحنتها المتفجّرة بمرور الوقت ولا تنفد، وتحتاج إلى إستراتيجيّة وطنيّة للوقوف أمامها ومجابهتها، عوضًا عن الخطابات الإنشائية وحلول التّرقيع.

لكن هل ترى القيادة السعودية كلّ هذه الأزمات أصلًا؟ النّاظر بعمُق لحال المملكة العربيّة السعوديّة حاليًا، لا بدّ له وأن يلمح الكثير من التّفاعلات الحادّة في المجتمع، بعيدًا عن سكون السّطح وهدوئه، وأن يرى عددًا من المشاكل تثور وفريقًا من الناس يئن، تحت وطأة ظروف صعبة مستجدّة، وأوضاع معيشيّة وصلت إلى حدٍّ من البؤس شديد، وإلى حالة من اليأس عامّة ومحبطة، في غياب أي قدر من الرّؤية السّليمة اللازمة لتجاوز الوضع.

مفتاح قراءة ما جرى ويجري من وقائع وأحداث، فوق السّطح وتحته، ما هو مكشوف ومقروء صراحة، أو ما هو ملموس محسوس ضمنًا، يرسم عددًا من الإشارات واللافتات الدّالة على عُمق الأزمة الحاليّة واتّجاهاتها المُستقبليّة، وينذر من مصير صعب، تنبه إليه علامات وكلمات باتت تنتشر في أوساط المجتمع كلّه، كلّها تؤكّد دقّة الظّرف وصعوبته، ومدى الضّيق الذي يجيش في الصدور، وبدأ أخيرًا يعرف طريقَه إلى الألسنة والآذان، وبقدر ما يحكم على  سياسات حالية بالفشل، فإنّه حتمًا لا يؤشّر على خير أو إصلاح.