(مبارك الفقيه\ راصد الخليج)
خمسة أعوام تَفصل المملكة العربيّة السعوديّة وإيران عن الاحتفال بالذّكرى المئوية لبَدء العلاقة الرّسمية بينهما، ولكن فصول هذه العلاقة لم تكُن مستقرّة أو في أحسَن أحوالها منذ العام 1928 حتّى اليَوم، فكانت باستمرار تمرّ بِمخاضات وتقلّبات باردة أو حامية أو فاترة بحسب مؤشّر ميزان حرارة المواقف من الملفّات الإقليميّة والدوليّة والقضايا الاستراتيجيّة في المنطقة؛ وغالباً ما كانت العلاقة بين العملاقين في الخليج تتأثّر بسياسة العهود والرّئاسات المُتعاقبة في البلدين، فتارةً تَصل إلى مرحلة التّقارب الحميم إلى درجة التّماهي، وطوراً تنقلب إلى مرحلة العَداوة الشّرسة، حتّى يخال المراقب وكأنّ الحرب بينهما واقعة لا مَحالة، إلّا أنّها حرب لم تحصل أبداً ولو في حدودها الجغرافيّة والميدانيّة الدّنيا.
لطالما ألقت التغيّرات السياسيّة بظلالها على العلاقات الثنائيّة قبل قيام النّظام الحالي في إيران (ما سمّي الثورة الاسلاميّة) في العام 1979 وما بعدها، ولطالما أبدى مسؤولو البلدين الجارين استعدادهما لمعالجة المشاكل والعَقبات التي تحول دون التّوافق على إرساء علاقة مستقرّة، إلّا أنّهم لم يصلوا يوماً إلى هذا المُرتجى لأسباب تاريخيّة ومعاصرة، اختلطت بها عوامل العرق والعقيدة والانتماء المذهبي بعوامل السياسة والجغرافيا، فضلاً عن الرؤى المُتعارضة بشأن التّعاطي مع ملفّات التّجارة والطّاقة والاقتصاد وبناء الأحلاف والعلاقات، وأهمّها حيال الغرب والولايات المتّحدة الأمريكيّة وإسرائيل، إلّا أنّ كلّ ذلك لم يحل دون وقوف الجانبين دوماً على طَرفي حرص إيجابي عبّر عنه الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز آل سعود حين قال: "لا يمكن إنكار التاريخ والجغرافيا، كما لا يمكن تجاهل إيران كدولة جارة كبرى، ما يجمعنا بها أكثر ممّا يفرّقنا".
بديهي أنّ الإتّفاق بين الدّول لا يقف عند حدود إطلاق التّصريحات الإيجابيّة، فالعِبرة دوماً تكمُن في تحويل صدى التّصريحات وحبر الإتّفاقات إلى إجراءات فعلية ملموسة، فلا يُمكننا بناء المسارات على وقع رومانسيّة المواقف الإيجابيّة، خصوصاً إذا ما نظَرنا إلى التّعقيدات التي تعتري الملفّات الشّائكة والعالقة بين البلدين، وأدّت بمرور السّنوات إلى تكديس الغبار السّميك على حالة التقبّل النّفسي بالدّرجة الأولى، ليس بين إيران والسعودية فقط بل بينها وبين مُعظم دوَل مجلس التّعاون الخليجي، وهذا يحتاج إلى كثير من الجُهد بما يؤول إلى بناء الثّقة وصياغة مسارات جديدة للعلاقة تأخذ بعين الاعتبار الاتفاق على القضايا الرئيسيّة التي تشكّل مدخلاً إلى توسيع مروحة التّوافقات، وتنحية الملفّات التي تحتاج إلى مزيد من البحث والنّقاش، وصولاً إلى إزالة الترسّبات التي تمنع وصول الحرارة والدّفء إلى علاقة البلدين.
كان موقف وزير الخارجية السّعودي الأمير فيصل بن فرحان في منتدى دافوس واضحاً بشأن التواصل مع إيران وإيجاد طريق للحوار، و"التركيز على التّنمية بدلاً من الشؤون الجيوسياسية" بما يُمكن اعتباره "إشارة قوية لإيران والآخرين بأنّ هناك مسارات أخرى للرّخاء المشترك"، كما أنّ تأكيده بأنّ "الحوار هو السّبيل الأمثل لحلّ الخلافات في المنطقة"، يدفعنا إلى تلمّس سياق مختلف للتّقارب كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ألمح إليه في تصريحات سابقة له بشأن علاقات الجوار بين المملكة وإيران، وهذا الأمر يؤذن بإمكانيّة التوصّل إلى صياغة آلية جديدة تحكُم العلاقة بين البلدين قائمة على التّفاهم بشأن الملفّات المختلفة، وقد يكون في مقدّمتها إنهاء النّزف الحاصل على جبهة اليمن الذي "لن ينتهي إلّا عن طريق التّفاوض ومن خلال تسوية سياسيّة، وتحويل الهُدنة إلى وقف دائم لإطلاق النار" بحسب بن فرحان نفسه.
جاء موقف الرّياض ليُقابل موقفاً أعلنه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللّهيان في المُنتدى الثّالث للحوار الذي انعقد في طهران مؤخّراً أكّد فيه استعداد إيران لاستئناف العلاقات مع السعودية وفتح سفارتي البلدين، مُرحّباً "بإعادة بناء الثّقة والتّعاون البنّاء مع دول الجوار خاصّة الدّول الخليجيّة.. واستعداد إيران لعقد اجتماع على مستوى وزراء الدّفاع والخارجية.. لإرساء الأمن في المنطقة بالتّعاون مع هذه الدول ولنحظى بعالم يسوده السلام"، ولعلّ هذا الموقف الذي جاء بعد عقد لقائي لقمّة بغداد بنُسختيها في العراق والأردن، يُسهم في العودة لاستئناف اللّقاءات الثّنائية التي بدأت منذ أبريل / نيسان 2021 بوساطة عراقيّة، وتطويرها في لقاءات مباشرة على مستوى وزراء الخارجية، ويمهّد لإعادة العلاقات المقطوعة بين البلدين منذ العام 2016.
يُدرك المسؤولون في كِلا البَلدين أنّ العالم اليوم يعيش إرهاصات تحوّل كبير على وقع الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، ويشهد نشوء التكتّلات العسكرية (النووية) الجديدة على الضّفتين الشّرقية والغربيّة للكرة الأرضية، كما يُدركون أهميّة منطقة الخليج، ليس فقط بما تملكه من موارد وطاقات هائلة تؤمّن للعالم كلّه عناصره الحيويّة في النّمو والتطوّر والاستمرار، بل أيضاً لما يشكّله الموقع الاستراتيجي لهذه المنطقة من ممرّات إلزامية تجارية واقتصادية، وامتدادات بشرية وجيوسياسية بين أطراف الكون الأرضي، وهم يعلمون تماماً حجم التحدّيات التي يفرضها الكباش الناري المحموم بين قوى الغرب والشّرق، والتي لا تغفل عينها عن النظر إلى منطقتنا العربيّة والإسلاميّة لما لها من أهميّة محوريّة قادرة على أن تغيّر في التّوازنات وتقلب المُعادلات، وهذا ما يحتّم عليهم حسم الأمور لمواجهة ما يُمكن أن يستجدّ من تطوّرات مُتسارعة قد تفرض على كلّ منهما اتّخاذ خيارات طارئة تترك أثرها المدمّر على المنطقة برمّتها، ولذا فإنّ التأخير في هذا السياق قد يؤدي إلى فقدان إمكانية تلقّف الفُرصة لبناء السلام، ليس كما ترسمه واشنطن وعواصم القرار الدولي، بل كما ترتئيه مصلحة العرب والمسلمين.