(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
"وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدّرع كاملة
يوقد النّار شاملة
يطلب الثأر
يستولد الحقّ من أضلع المُستحيل".
أمير شعراء الرّفض العربي، أمل دنقل، في رائعته العابرة لعهود الهزيمة وأزمنة اليأس لا تصالح.
في البَدء كانت الكلمة، في بَداية كلّ حكاية أو أسطورة كلمة، وكلّما كانت الكلمة صادقة وتعبّر عن واقعها كانت باقية شعاعًا من نور على امتداد الأجيال، وفي ظنّي –وبعضه ليس أثم- أنّ تُحفة الشاعر العربي أمل دنقل الخالدة لا تصالح حملت كل ما يُمكن حمله من أسباب البقاء وعوامل الخلود، وتكاد تنطبق على واقعنا وتستشرف مستقبلنا، بغير جهد في الشرح أو إسهاب في التّفسير.
القصيدة التي أعادت بعث حادثة في التاريخ العربي القديم، ومعها القِيَم الهائلة التي حكمت تصرّفات أبطالها، من الشّهامة والفروسية والفداء، ثمّ ربطتها على نحو بالغ التّوفيق والذكاء بواقع عربي كان أشبه بالكابوس المستمر، وضعت الحكاية لبنة أولى لمستقبل جديد موعود، في خضم تغيّر هائل منتظر وأكيد، يستعيد الحقّ ويثأر للدم ويقدّم الدّم قربانًا مجيدًا للحقّ والإيمان والإنسان.
وكانت العبقرية النادرة للشاعر عبر استلهام حكاية تنتمي إلى نموذج الصّراع الصّفري، نتائجها لا تتحمّل وجود طرفَي الصّراع معًا في أيّة نهاية، فإمّا حقّ أو حقد، إمّا نصر كامل أو باطل كلّه، كما بالضبط وضع مفكّرون عرب وصفة الصّراع بعد تبيان فشل الخيار العربي للسّلام بعد كامب دافيد ووادي عربة وأوسلو ومدريد، كانت الرؤية الصحيحة –والبسيطة كذلك- ذات قدرة فريدة على استقراء الحقائق الأوّلية للصّراع بيننا وبين العدو المحتل، واستخراج القانون الأوّل للواقع العربي، وهو أنّه صراع وجود لا صراع حدود، وأنّ من يقبل بوجود قائم للكيان، ولو اسمًا في قرية أو رمزًا في شارع أو علمًا على مبنى، إنّما هو خائن قوميًا كافر دينيًا.
وتلك هي الميزة الكبرى لقراءة التّاريخ، إذ إنّ القارئ الواعي لا يتوقّف عند الواقع ونقده بعنف، بل يعبر إلى استقراء الحوادث واستنتاج حركة التّاريخ نحو المستقبل الذي يُريده مختلفًا، وهو مُستقبل ممكن في كلّ الأحوال، شريطة توافر الإرادة الوطنيّة والقوميّة لصناعة التّغيير وكسر معادلات القوّة الغاشمة القائمة، ومُتاح عبر ممارسة المقاومة على كلّ المستويات، نحو امتلاك شروط تجاوز هذا الواقع وكشط قشرة الوهم التي يمثّلها ويقوم عليها الكيان.
أحداث نادرة في التّاريخ الإنساني المعروف لنا يُمكن أن نطلق عليها –بغير تجن- وصف المأساة الكاملة، كان هذا هو حال العالم العربي كلّه في أعقاب ثورات الرّبيع الملوّن، والتي كانت عمليّة تدمير شاملة للإمكانيّات والثّوابت العربيّة الوطنيّة، وبقدر ما بدت استردادًا للقرار من القصور إلى الشارع، فإنّها أخذته إلى المجهول والظّلام، حيث كان الكيان وواشنطن في الانتظار والموعد، وبدلًا من أن تُقيم حكمًا وطنيًا فإنّها خلقت كارثة وطنيّة، واستبدلت الأسوأ بالسّيء، في مصر –مثالًا- رحل مبارك أو "الكنز الإستراتيجي" وفق تعبير بنيامين نتنياهو وجاء من رفع برقع الحياء عن مصر كلّها، وقدّمها فريسة مقيّدة سهلة لعدوّها وعدو أمّتها، مع صوت ضحكاته البلهاء في الخلفيّة يكمل بها رسم المشهد الأليم.
ووسط السيولة السّاخنة التي سيطرت على مفاصل أنظمة الحكم العربيّة التقليديّة، فإنّ الصّعود المفاجئ لعدد من القيادات الجديدة قد استلزم منها أن تحصل على ضوء أخضر ما للاستمرار والبقاء، يمنحها في غياب دعم الشارع والثّقة الشعبية ما تحتاج إليه لتثبيت أقدامها وترسيخ وجودها، وكان الحلّ في واشنطن، وأدركت –أو تمّ إفهامها- أنّ الطريق إلى قلب واشنطن يمرّ عبر الطريق المفتوح إلى تلّ أبيب، وهكذا حدثت أكبر عملية هرولة رسميّة عربيّة إلى كيان الاحتلال من قِبَل الأنظمة الرّسمية العربيّة.
يُمكننا أن نفهم كيف تصدر عدّة أنظمة عربيّة بيانات إدانة لعملية بطوليّة وقعت في القدس الشريف، وبالضبط في منقطة القدس الشرقيّة التي تعتبرها حتّى أدبيات سياسة الاستسلام العربية جزءًا لا يتجزأ من فلسطين المطلوبة عبر المفاوضات، أصدرت الإمارات والأردن ومصر بيانات رسميّة للإدانة والتّضامن مع كيان الاحتلال فور وقوع العمليّة البطوليّة غير المسبوقة، بينما أصدرت المملكة السعوديّة بيانًا رفض أن تُهاجم "دور العبادة"، وأغمض عينه عن الانتهاكات المتتالية التي تعرّض لها المسجد الأقصى الشريف على يد قطعان الصهاينة ومسؤوليهم ووزرائهم!.
في الحقيقة فإنّ البيان السعودي الأعور لا يعبّر سوى عن حاكم أعور كذلك، لا يرى الحقيقة ولا يُريد أن يراها، وهو في رهانه الحالي على الكيان أو حتّى على واشنطن، لا يشعر بتطلّعات شعبه ولا أمانيه الكبرى، ويتصادم في عنف بالثّوابت الدينيّة والوطنيّة لكلّ إنسان في هذا البلد وهذه الأمّة، ويستمر في سياسة المغامرة على نحو غير مسؤول بمستقبله وحظوظه في الحكم، بدلًا من أن يسعى لزيادتها، وهذه النّقمة التي سبّبتها السياسات الاقتصاديّة الغبيّة لن يزيدها الانفصال عن مشاعر المواطن سوى زيتًا يُلقى على النّار، وإنّ غدًا لناظرِه قريب.