(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
المملكة العربية السعودية بلد كبير، ويتمتّع بأهميّة خاصّة وكبيرة، سواء في عالمه العربي بكَون قلب منطقة الخليج الإستراتيجيّة والغنيّة، وعالمه الإسلامي الواسع، حيث تمتلك البَلد السيطرة على أقدس الأماكن الإسلاميّة على الإطلاق، والتي هي قبلة كلّ مسلم في كلّ مكان بالعالم، وبالنّسبة للقوى الكُبرى فإنّ المملكة تحتَضن أهم حقول النّفط والغاز، ما يستدعي اهتمامًا كبيرًا من الحكومات المشغولة بقضيّة الطّاقة، وهي الأداة المحرّكة لشنّ الحروب أو صُنع السّلام في عالم اليوم المتقلّب.
ومع اشتعال الحرب الروسيّة في أوكرانيا، منذ عام تقريبًا، فقد استحوذت المملكة على اهتمام خاص وإضافي، يتعلّق بدورها المحوَري في تأمين النّفط والغاز للأسواق الغربيّة المتعطّشة بشدّة لهذه الموارد، ومع استمرار الحرب وما يلوح في الأفق من انعدام فرص نهاية قريبة لها، فإنّ الدّور المحوَري للسعودية تحوّل إلى دور حيَوي بالنّسبة للغرب، أوروبا والولايات المتّحدة على السّواء، القارّة العجوز راغبة بشدّة في تأمين مصادر بديلة للطّاقة الرّوسية، وواشنطن هي الأُخرى تبحث عن دعم حلفائها في حرب تُريدها شاملة على روسيا.
ووسط كلّ هذه الأحداث السّاخنة والتقلّبات المفاجئة، يظهر سبب جديد يدعو كلّ الأطراف الدّولية الفاعلة والمؤثّرة إلى الالتفات تجاه الأوضاع الداخلية في المملكة السعودية، وهو ما يظهر بين الفَينة والأُخرى من توتّرات ودلائل تُشير إلى وجود ضغوط وأزمات داخلية كبرى، تمسّ استقرار الحكم السعودي، رغم كلّ ما يجري من محاولات إعلاميّة وسياسيّة للتّعمية عليها وتجاوزها، وهي كلّها أمور تُشير إلى مشكلة عميقة في ضبط مستقبل المملكة، كما أنّها تُنذر بأخطاء واضحة في إدارة الواقع من جانب ولي العهد والحاكم الحقيقي للرّياض الأمير محمد بن سلمان.
والحقيقة أنّ كلّ نظام حكم في المملكة كان يفهم جيدًا –وبالتّالي يفرّق- بين الوظيفة والتي أتاحتها له الارتكان إلى قوّة عالمية إمبراطورية، سواء بريطانيا التي لعبت الدّور الأوّل في التّأسيس أو الولايات المتّحدة التي ورثت الدّور والنّفوذ البريطاني، ويحتاج الدّور في المنطقة، إلى تكاليف تدفع وتخطيط يرى الواقع ويعي التحديات والموقع، ويستند إلى نوع ما من الانخراط في الشؤون الإقليميّة، وبما يحمله من فواتير تسدّد وحسابات مفتوحة للحركة والتّأثير في عالمَيها العربي والإسلامي.
كان هذا السّبب والدّور وراء نشاط الملك سعود في تجمع الجامعة العربيّة، بل وكون المملكة أحد المؤسّسين لهذا الكيان العربي، ثمّ دخول الملك فيصل إلى تجمّع أوسع هو مؤتمر الدّول الإسلاميّة، وبالتّوازي مع محاولات الوجود المؤثّر والفعّال كان موجودًا مجلس التّعاون الخليجي، بما منَحه للمملكة من ثقل كبير في كلّ المحافِل الدّولية، ومن رصيد إضافي هائل في الوزن الدّولي ومعادلات القوّة العالميّة.
والواقع يقول إنّ تكاليف الدّور، مهما بلغت فداحتها أو بلغ إنفاقها، لم تكُن هباءً منثورًا، بل إنّ هذا الدّور هو ما منح المملكة، حتّى وقت قريب جدًا، الهيبة والمكانة والحماية، ورسّخ لوجودها كقوّة إقليميّة كُبرى، وزاد من أهميّتها وأرصدتها المُضافة في علاقاتها مع الدّوَل العربيّة الأُخرى ومع العالم الخارجي، وبشكلٍ جعلها طَرفًا مطلوبًا وبشدّة أكثر من كونها دولة طالبة.
كان الحصاد السّعودي لهذه السياسة الذكيّة كبيرًا وضخمًا ويستحقّ الاستثمار فيها، وأمام أيّة أزمة واجهتها المملكة كان الحُلفاء موجودين وجاهزين وأكثر من مستعدّين لتقديم العون الفوري، في حادثة اقتحام مجموعة جهيمان العتيبي للحرم المكي 1979 جرى الاستعانة بالقوات الخاصّة الفرنسيّة فورًا، لتصفية أزمة احتجاز الرّهائن في الحرم المكّي الشّريف، بعد أن أعيَت قوّات الحرس الوطني والجيش الوسائل لتصفية الأزمة مهما كانت التّكاليف، وبعدها استمرّت عمليّة الحماية قائمة، وتمكّنت الدبلوماسيّة السعودية من حشد أضخم تحالف دولي لردّ أطماع صدام حسين عن منابع البترول الخليجيّة في 1991، وكان التّحالف هو المزيج الأمثل لحلفاء الرّياض، دوَل عربيّة وإسلاميّة كُبرى، وأوروبا الغربيّة والولايات المتّحدة، الكل كان يتسابق بدفع من مخاوف أيّة هزّات تعصف بالمملكة.
اليوم، تغيّر تفكير صانع القرار الأوّل، ولي العهد المندفع تحت تأثير نشوة اعتقاد بالتّغيير وإعجاب مرضي بالغرب وحياته وأسلوب عيشه، غير مُدرك تمامًا لبعد الشقّة بين عادات وتقاليد راسخة هنا وتفكّك اجتماعي هائل هناك، بما جعله يعتمد على شراء مساحات الظّهور في الإعلام، والرّعاية المُبالغ فيها لحفلات ومهرجانات فنيّة باذخة، وكلّها من وجهة نظره تخدم هدف تلميع صورته لدى الغرب، ووقع الأمير في خلط غريب بين الظهور والتّأثير وبين أضواء الإعلام ولغة المصالح، التي لا يفهم الغرب سواها.
في الزلزال المدمّر الذي ضرب سوريا وتركيا، كمثال واحد، غاب كلّ صوت للسعوديّة، حتّى ولو من باب ذرّ الرّماد في العيون، وانفضحت الرّغبة المكبوتة في مخاصمة العالم العربي وآلامه وهمومه، وهذا ليس موقفًا واحدًا وسيمرّ كما مرّ غيره، لكنّه موقف ينطلق من قناعة مسبقة –وعجيبة- بخيارات ولي العهد وإنحيازاته، وفوق ما يكشف من خسارة فإنّه لا يحمل بشائر على مُستقبل للحُكم ولا فُرصًا في الوجود والمَكانة.