(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
حتّى مطلع الألفيّة الجديدة، لم يكن هناك أعمال عربيّة فنيّة –بمعنى الكلمة- يُمكنها أن تُضاهي أو تُوازي الأعمال المصريّة، الأفلام والمسلسلات المصريّة تحوّلت من فنّ إلى سلاح وقوّة ناعمة، كانت تُكسب البلد العربي الأكثر اكتظاظًا بالسكّان أهميّة فوق أهميّته، رغم التّراجع الحادّ وموجة الرّفض والمقاطعة العربيّة التي استمرّت عقد الثّمانينات كلّه.
والقوّة النّاعمة هو مُصطلح ابتدعه أستاذ العلوم السياسية الأميركي جوزيف ناي، رئيس مجلس المخابرات الوطني في عهد كلينتون، ويُعرف هذا المفهوم على أنّه الأدوات المؤثّرة والسّلاح المُبدع القادر على تحقيق الأهداف وتعميق التّواجد والتّأثير لدولة ما، عن طريق طرح أفكار جاذبة وطرق مُقنعة، عوضًا عن سياسات التّرغيب والتّرهيب القديمة ودفع الأموال بلا طائل، ويوضح "ناي" أنّ ذخيرة هذا السلاح المؤثّر والذّكي تكمن في ثقافة البلد وقيمها السياسيّة وأدوارها الخارجيّة، وهي إن استطاعت توظيفها بشكلٍ كفءٍ فإنّها ستمنحها على الفور مساحات هائلة للفعل والتّأثير ومجالات غير محدودة للحركة، والأهم أنّها ستكون كروتًا رابحة في يد قيادتها.
خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، استطاع الفنّ المصري أن يتجاوز كلّ حدود ويقفز على أي عوائق وُضعت في طريق انتشاره، وكان –صدقًا- يمثّل السّينما والدراما العربيّة، وبنى على نجاحات أزمنة سابقة كان النّظام المصري يتقدّم فيها أغلب الدّول العربيّة ويلعب دور المحفّز والقائد لمحيطه، بل أنّ هذه القوّة النّاعمة باتت توفّر لنظام مبارك السّابق ثقلًا في محيطه العربي، وتنثر مساحيق التّجميل على وجهه وعلى البلد ككل.
في 21 كانون الثاني/ يناير 1996، مع بَداية شهر رمضان المبارك لعام 1416، عُرض على الشّاشات العربيّة المسلسل المصري الشهير "لن أعيش في جلباب أبي"، عن رواية للكاتب المُبدع إحسان عبد القدوس، كان المسلسل قنبلة الموسم الرّمضاني حينذاك، ولاقى انتشارًا عربيًا هائلًا، والغريب أنّه رغم مرور كلّ تلك السنوات، لا يزال حاضرًا بشدّة على الشاشات ومحفورًا بدقّة في الأذهان.
تكفلت القصة الواقعية جدًا لرواية صعود رجل –نور الشريف- من الفقر إلى الثّراء بإخلاص وذكاء فطري، وتمثيل العمل للأسرة العربيّة العادية جدًا، وابتعاده بالكامل عن تناول أي حدث سياسي أو الارتباط بالتّواريخ والوقائع المختلف عليها، إلى وضعه كأيقونة في مجال هذا الفن، وكان البطل حريصًا على إلغاء أي ارتباط بين المسلسل والمراحل الزّمنية أو الرؤساء، فيُمكنك ببساطة رؤية العمل اليوم، ولن تعرف على الإطلاق المرحلة الزمنيّة التي يتناولها، وربّما هذا كان من عوامل النّجاح المستمر ووجود المسلسل كضيف دائم على القنوات العربيّة الفضائيّة، حتّى اليوم.
أمّا تكلفة المسلسل، الذي شكّل مرحلة فارقة بالنّسبة لكلّ من ارتبط به، وأثّر في عشرات الملايين حول العالم العربي، لم تتجاوز مليون جنيه مصري، أقل من 33 ألف دولار بأسعار اليوم، وبسبب الميزانيّة المتدنيّة فقد تمّ تصويره بالكامل في "مزرعة دواجن" وليس في إستديوهات مجهّزة، والأغرب أنّ أجور أبطاله لم تزد عن 8 آلاف جنيه (263 دولار) للنجم محمد رياض والنجم الكبير عبد الرحمن أبو زهرة.
بكلمات أُخرى، فإنّ الدولة التي تُعاني من عجز مالي مستمر وطويل ومتفاقم، وتعتمد بشكلٍ كبير –خصوصًا خلال السنوات الماضية- على الدّعم الخليجي والمساعدات الخارجيّة والقروض، تمكّنت بقليل جدًا من المال وبتوافر عنصر الذّكاء في إدارة مواردها الثّقافية والفنيّة، في أن تحقّق أكثر بكثير من التّأثير المطلوب، وأن تصدّر ثقافتها إلى كلّ محيطها العربي، وحتّى في مرحلة الخفوت والتّراجع الحالية، لا يزال تأثيرها مستمرًا، مهما بدا ضعفه وابتعاده عن المنافسة.
اليوم تُحاول المملكة أن تصنع نموذج جديد للقوّة النّاعمة، قائم بالأساس على هيئة التّرفيه، وترصد له عشرات المليارات من الدولارات، بحثًا عن صناعة نموذج للدّول العربيّة، مهما بلغت التّكاليف ومهما طال المدى، لكن السؤال المعلّق فوق الرؤوس هل نجحت كلّ هذه التّكاليف في شيء، أم أنّها لا تمثّل أكثر من تبديد للثروة في طريق خاطئ.
الإجابة بالقَطع لن تكون إيجابيّة، لن يقتنع المواطن العربي بأنّ الدّوري السعودي لكرة القدم أفضل من نظيره الإنجليزي، حتّى لو جاء كريستيانو رونالدو للّعب بقميص النّصر وحصل في المُقابل اللّاعب صاحب الـ 38 عامًا على 200 مليون دولار سنويًا، الأمر محسوم ويُشبه سباقًا بين فهد وشجرة، لا يُمكن للمال أن يصنع وحدَه حياة جديدة.
استضافة بطولات الجولف وسباقات الفورميلا وان، والتي تكلّف الخزانة السعوديّة مليارات أُخرى من الدولارات، والحصول على بعض مباريات المُصارعة التّمثيليّة كذلك بتكاليف خياليّة –أو جنونيّة- لن تجعل من المملكة مشروعًا عربيًا للمستقبل، ولن تحوّلها إلى قيادة طبيعيّة للمنطقة العربيّة.
الغريب أنّه حتّى في مجال الأعمال الفنيّة، فإنّ إعلان إنتاج مسلسل ضخم، بتكلفة قدّرت بـ 100 مليون دولار، عن معاوية بن أبي سفيان يأتي ضمن هذا الهدر الأعمى والسفه الجنوني، لقد اختار القائمون على القصّة ببساطة أن يعكسوا وصفة النّجاح التي قدّمها نور الشريف، ببساطة، أي اختيار منطقة ملغومة في التّاريخ الإسلامي وإعادتها للضّوء، وجُل ما يُمكن أن يحقّقه هذا العمل هو الجدل وإثارة الخلافات.. لكنّه أبدًا لن يجلب سوى اللّعنات.