(مبارك الفقيه\ راصد الخليج)
توّجَ وزير الخارجية فيصل بن فرحان ثمرَة اتصال الأمير محمد بن سلمان بالرّئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بزيارة فريدة إلى كييف، حيث أعلن من هناك عن تقديم حزمة مساعدات سعودية بقيمة 400 مليون دولار، "لدعم السلام في أوكرانيا وسيادته" على حدّ قول زيلينسكي؛ وزاد جمال الصورة وصول المساعدات السعودية إلى سوريا دعماً لجهود الإغاثة في مواجهة آثار الزلزال الكارثي الذي أصاب البشر والحجر.
هي دبلوماسيّة الإغاثة الإنسانيّة اعتادت عليها مملكة الخير، أم هي بوابة تبغي الرّياض من خلالها العودة إلى المسرح الدّولي، وكسر الجليد في ظلّ تدحرج التطوّرات النّارية على جبهة الشّرق والغرب، وتلقّف المُبادرة لقيادة التحرّكات الخفيّة، المهندسة أميركياً، الرّامية إلى عقد مُصالحات إقليميّة في المنطقة لتحييد العالم العربي الغني عن شظايا الإنفجار الوشيك؟!
ليس خافياً أنّ الرّياض اختارت في المرحلة الماضية انتهاج سياسة الوسطيّة والحياد في التورّط بالصّراع المحموم القائم بين روسيا والغرب عموماً وما لهذا الصراع من تداخلات سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة فرَضتها فوَّهات المدافع ودويّ الصواريخ، وهي سياسة استدراكيّة ارتأت السعوديّة التّموضع فيها بعد أن مرّت علاقاتها مع الولايات المتّحدة بحالة من التأزّم المشحون.
كان الرئيس جو بايدن قد تعهّد بأن يجعل من المملكة دولة منبوذة ومعزولة استجابة لضغوطات اللّوبي النّاخب عشيّة الإقتراع في الانتخابات النّصفية للكونغرس، قابلها عناد سعودي جعل من بايدن يكسر الكثير من الخطوط الحمراء التي كان رفعها في وجه المملكة، خصوصاً بعد أن لوّح ابن سلمان بالرّاية الشرقيّة، وفتح أبوابه أمام التنين الصيني ليجد له موطناً في الديار مستقبلاً الزّعيم الصيني شي جين بينغ، فضلاً عن الحفاظ على انسيابيّة العلاقة مع موسكو على الرّغم من تصاعد المواقف السياسيّة وزيادة اشتعال المعارك، وسيل المساعدات العسكرية والماليّة الأمريكيّة – الأوروبيّة لأوكرانيا.
إذن هي الواقعيّة التي دفعت رئيس أكبر دولة في العالم لينتهج سياسة مهادنة مصلحيّة، أتبعها بتحرّكات يرى المراقبون أنّ واشنطن ترمي من خلالها إلى إيجاد حالة من المراوحة المؤقّتة في مُحيط المنطقة العربيّة عموماً والخليج خصوصاً، سعياً إلى تحييد إيران وعزلها ودفعها إلى الرّضوخ للشروط الأمريكيّة في المباحثات النّووية المعلّقة على خيط المناكفات الغربيّة – الإيرانيّة.
ويبدو أنّ الرّياض قرّرت السّير في المسلك نفسه من حيث السّعي لإعادة وصل ما كان مقطوعاً مع الأخوة العرب، فبادرت إلى مصالحة قطر، والقَبول بإرساء هُدنة على جبهة اليمن، وتهدئة التوتّرات مع الإمارات وتركيا، ولا ترى غضاضة في الانفتاح العربي على سوريا - وزيارة الرّئيس السوري بشار الأسد إلى مسقط ليست بعيدة عن هذا السّياق - باعتبار أنّ مخرجات أي تَسوية ستكون وفق نسج خيوط القرار السعودي، بل إنّ الرّياض تدفع باتّجاه حلّ سياسي وفق ما فهم من كلام للوزير بن فرحان في جلسة حواريّة على هامش مؤتمر "ميونيخ" للأمن، حيث قال: "لا جَدوى من عزل سوريا، في ظلّ غياب سبيل لتحقيق الأهداف القصوى من أجل حلّ سياسي".
أمّا في المَقلب الآخر فقد شرّعت السعوديّة سماءها أمام الرّحلات الجويّة الإسرائيليّة تماشياً مع معادلة التّسوية واسترضاءً لواشنطن وتمهيداً لأي مشروع تطبيعي، خصوصاً أنّ رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو يتطلّع بقوّة لهذا المشروع، معتبراً أنّ "التوصّل إلى سلام مع الرّياض سيوصل الصّراع العربي - الإسرائيلي إلى نهايته، وسيمهّد لتحقيق سلام عملي مع الفلسطينيين".
بعد هذا الإستعراض العام تبدو السعودية في منتصف القضيّة، وتتوسّط ملفّات الشّرق والغرب بحيث تحمل العصا من الوسط في الصراع الروسي – الغربي، وفي الوسط بحيث تحرص على جمع شمل الدوَل العربيّة والخليجيّة، وفي الشمال حيث عيّنها النّاظرة على الجار الإيراني الطّموح نووياً، وفي الجنوب حيث لا يمكن التّغاضي عن تداعيّات أي ترتيب سياسي يشمل لبنان وسوريا وإسرائيل، نظراً لقدرة هذا الملف في التأثير على الترددّات الشاملة في المنطقة. فهل ستُبادر الرّياض لإمساك العصا من مقبضها أم أنّها ستبقى تراوح مكانَها في محور التّوازي مع كلّ الملفّات والأطراف؟
ولئن كانت الاتّجاهات في الشّرق والغرب تسير وفق وتيرة مدروسة سعودياً، ونقطة الوسَط مضبوطة إلى حدٍّ كبير، تبقى الإتّجاهات العاصفة تتحرّك من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، وهي ليست اتجاهات من صنف واحد أو ثابتة في بوتقةٍ واحدةٍ، بل هي عبارة عن تمظهرات متداخلة، لا تقف عند حدود الإنتماء العرقي أو المعتقد السياسي والديني، بل تعبّر عملياً عن خلفيّات متعارضة وطموحات متناقضة وأهداف متضادّة، فطهران كما واشنطن وتل أبيب قد أعلنت التّلاقي المستحيل في ما بينها، وسوريا لا تزال تُجاهر بانتمائها إلى المحور المُعادي لإسرائيل، فيما المطلوب إعادتها إلى الحضن العربي، أمّا لبنان فلا يزال - على هزالة وضعه الداخلي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً قادراً على أن يقلب الطّاولة في أي حسابات إقليميّة.. إنّها فسيفساء صعبة التّركيب والتّساوق، ويعلم الأمير محمد بن سلمان تعقيداتها الكأداء، ولكن لا بدّ له من اتّخاذ الموقف المناسب الذي "لا يموت فيه الذئب ولا يفنى معه الغنم"، لكي تستعيد السعودية دورها الرائد في المنطقة، وألّا تبقى على الهامش.
وللمناسبة فقد عزّزت الإمارات حجم إنفاقها العسكري في إطار تشجيعها للصّناعات العسكرية المحلّية، سعياً منها لكي تتحوّل إلى قوّة مهيمنة إقليمياً على سواحل البحر الأحمر وتُخوم القرن الأفريقي، ولهذه الغاية أنجزت حديثاً 44 صفقة بقيمة 5.7 مليار دولار، أمّا إيران - التي تتجهّز ليلعَب منتخبها مباراة وديّة في كرة القدم مع نظيره الرّوسي قريباً - فهي وروسيا "تعيشان فترة ذهبيّة من تطوّر العلاقات"، وسيقوم وزير خارجيَتها حسين أمير عبد اللّهيان بزيارة موسكو خلال الشّهر الجاري، وقناعة الطّرفين أنّ "روسيا وإيران يُمكنهما لعب دور مكمّل وحاسم لخلق التّوازن في سوق الطّاقة العالمي".