(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
يُعدّ التّاريخ الإنساني المعروف سلسلة طويلة من الصّراعات، بين بَني البَشر، وسواء كانت هذه الصّراعات تُحرّكها الأطماع في الموارد المُحتملة أو الدّفاع عن الثّروات المتَحقّقة، فإنّ الحرب العالميّة الثّانية تُمثّل، وبامتياز، درّة التّاج بالنّسبة لفصل الحروب والنّزاعات الكُبرى، وقد انتهت عمليًا بامتلاك الإنسان القُدرة على تَفجير الجَحيم الذرّي، وهو إن كان سببًا مباشرًا في نهاية الصّراع إلّا أنّه حوّل فكرة قيام حرب عالميّة جديدة إلى مسألة مُستحيلة.
بعد أن انتشر أو تسرّب الرّادع النّووي إلى الدّول الكُبرى، باتت معها فكرة الحرب مُستبعدة منذُ نهاية الأربعينيّات على الأقل، إذ تظهر عندها احتمالات التّدمير المُتبادل، فالدّولة المُنتصرة ستخرج بعد مواجهة من هذا النّوع، وعلى أقلّ تقدير، في حالة دمار كامل وشامل، تُلغي معها الفارق بين النّصر والهزيمة، وحتّى الهزيمة بذاتها لا تضمن للمُنتصر أن يُحقّق أي هدف ذي معنى، فلن يُسيطر على أرض ولا سيَستفيد من موارد خَصمه أو إمكاناته، ثمّ هو لن يتقدّم خطوة واحدة في أرض يسود فيها الغُبار الذرّي، الموت القائم والمُستمر.
الحرب العالميّة الثانيّة قتلت فكرة الحرب الكُبرى، ووضعت حدودًا صارمة لما يُمكن أن تبلغه المواجهة بين الدّوَل العُظمى، لكنّها رغم ذلك لا تزال منجمًا للسّياسات والأفكار والمواقف، بفعل كونها الحرب التي أمتدّت على امتداد رُقعة القارّات كلّها، وانخرطت فيها كلّ قوّة مؤثّرة على كوكب الأرض، واستمرارها لسنوات ست، كانت كفيلة بتَحفيز العَقل البَشري والإرادة الإنسانيّة على تَطوير وتعزيز المعارف والعلوم في كلّ المَجالات، وكانت إبداعات المُتحاربين في التّدمير مفتاحًا لسلسلة منجزات في المجال العسكري، ورغبَة التّأثير في الآخر بوابة نحو حروب موازية، عمادها العَقل والدّهاء، وسلاحها المَكر، وقد قدّم الحُلفاء الغربيون في هذا الجانب ما يُمكن اعتباره أفكارًا عجائبيّة لكسر أعدائهم وكشف جبَهاتهم الدّاخليّة ومحاولة تمزيقها.
في مجال الحروب الخفيّة والمخابراتيّة، تأتي قصّة الجاسوس السوفييتي ريتشارد زورغ كأبرع عمل في هذا المجال، وصفه مؤرّخ الاستخبارات البريطانيّة كريستوفر أندرو، إنّه أبرع عملاء القرن العشرين، وقال عنه إيان فليمنغ بالتّأكيد إنّه العميل الأكثر قيمة في العالم، وبعيدًا عن قصص هوليوود الخياليّة أو الأعمال الفنيّة التي خلقت من الوَهم أبطالًا وصدّرت من الخداع ساعات طوال تملأ الشّاشات، فإنّ الدّكتور زورغ بالتّأكيد هو أعظم عميل وأنجحهم في التّاريخ، كما يجزم كلّ من كتب عن تفاصيل حرب العقول، التي لا يتسرّب منها كالعادة إلّا القليل، ولا ينشر منها إلّا قصصًا تتجاوز الواقع إلى عالم مصنوع بالكامل من الخيال.
وتُمثّل درّة قصّة نجاح زورغ في برقيّاته الحاسمة التي حدّدت مصير واحدة من أهم معارك الحرب العالميّة الثانية، معركة موسكو أو تايفون كما سمّاها الألمان، ورُغم أنّ السوفييت فوّتوا على أنفسهم الاستفادة من بلاغ العميل الأهم بيَوم الغَزو النّازي لروسيا، إلّا أنّهم بَنوا كامل إستراتيجيّة التّعامل مع المعركة الحاسمة لجزم زورغ بأنّ اليابانيين –حُلفاء الألمان- لن يشنّوا هجومًا على الشّرق الأقصى إلّا في حال توافر 3 شروط، هي نجاح النّازيين في إسقاط موسكو وقيام حرب أهليّة في سيبيريا ومُضاعفة قوّات جيشهم في منشوريا، وأمر ستالين باستدعاء الفِرَق السّوفيتيّة فائقة التَجهيز والخِبرة من الشّرق وتركيزها لصدّ الهجوم المدرّع الألماني الضّخم على عاصمته، لتكون أوّل هزيمة للألمان، ويرَى العالم مشدوهًا مذهولًا طوابير الأسرى وأكوام جُثث القَتلى النّازيين، وفي النّهاية سقط زورغ بسبَب نشاطه الواسع وشبَكته الضّخمة في أيدي البوليس السرّي الياباني، وتمّ إعدامه.
اليوم، لا يحتاج العالم العربي ودوله –من الأصل- جواسيس أو عملاء، تزرعهم دوَلَهم لكَشف أسرارهم أو معرفة نواياهم، قد تكفي مكالمة هاتفيّة من واشنطن في نقل السّياسة الوطنيّة من مدار إلى مدار آخر جديد، وفي لحظة واحدة، وقد تكفي النّخب والبَدائل، غربيّة الهوَى والهويّة، في تهديد كلّ كرسي حكم، وبالتّالي ضمان الولاء المُطلق والتّسليم غير المشروط للجالس عليه.
خلال الأيّام القليلة الماضية، ذهبت السياسة الخارجيّة للمملكة العربيّة السعوديّة مسافة طويلة في الشطط، حين زار وزير الخارجية أوكرانيا، وقدّم لها مساعدة هائلة تبلغ 400 مليون دولار، في ظلّ دفع أميركي غير خاف لتَطويل وتَمديد المُواجهة العسكريّة المُشتَعلة بين روسيا وأوكرانيا، وتَوفير الدّعم المَالي والعَسكري والسّياسي لـ كييف.
ما فَعلته المَملكة بقرار واحد غبي، يلبّي المَصالح الأميركيّة ولا يضَع المَصالح الوطنيّة في الاعتبار، إنّها أضافت عدوًا جديدًا لها في العالم، صحيح أنّ روسيا لم تعُد القوّة العُظمى السّابقة، لكنّها تَبقى قوّة عالميّة قادِرة، وتظلّ فِكرة شِراء عداوتها مجّانًا ودون داعٍ مسألة غبيّة وخطوة حمقاء، وفوق أنّها لا تُقيم وزنًا للخط الوطني الذي يجب أن تعكسه سياسات الدّولة، فإنّها اتّخذت القرار دون النّظر إلى شعبها من الأصل.
كما كانت ستوفّر 400 مليون دولار من فُرَص عمل في المملكة، إذا ما توافرت الإرادة الجادّة لبناء مجمّعات صناعيّة صغيرة للشّباب العاطِل عن العمل، وهي نسبة حاليًا جد كبيرة، وتُمثّل قُنبلة أعصاب موقوتة في كلّ بَيت سعودي، وكم كانت قادرة على تَحسين حياة ملايين الفُقراء عبر برنامج دَعم اجتماعي واسع، يتلافى آثار التضخّم.
إنّ ساسة العالم العربي اليوم تحوّلوا تمامًا من الحديث إلى شعوبهم بالحَديث إلى عدَسات الكاميرات وشاشات التّلفاز، وتغيّر بالتّالي حديثهم من ممارسة فنّ الإعلام إلى نَوع من الإعلان "الدّعاية" على الطّريقة الغربيّة، وإذا كان الإعلان هو انطباع يتولّد في نَفس رَجلٍ واحد ويدفعه نحو اقتناء سِلعة، فهو تصرّف محصور في أضرارِه ومَحدود في تَكاليفه، أمّا الإعلام حين يتّجه إلى أوثان العَصر الجديد من ميكروفونات وصوَر، فإنّه يرتّب قرارات مصيريّة تؤثّر في السّياسات وتصنع التّاريخ وتُقرّر المَصائر والمقادير لشعوب وأمَم بكامِلها.