(مبارك الفقيه\ راصد الخليج)
في مقالٍ سابق تحتَ عنوان "علاقة على صفيحٍ دافئ .. هل تتفادى السعودية وإيران الحريق الأكبر؟" كتبتُ أنّ المسؤولين في كلا البلدين "يعلمون حجم التحدّيات التي يفرضها الكباش النّاري المَحموم بين قوى الغرب والشّرق، والتي لا تغفل عينها عن النّظر إلى منطقتنا العربيّة والإسلاميّة لما لها من أهميّة محوريّة قادرة على أن تُغيّر في التّوازنات وتقلب المعادلات، وهذا ما يُحتّم على هؤلاء المسؤولين حسم الأمور لمواجهة ما يُمكن أن يستجدّ من تطوّرات مُتسارعة، فإنّ التّأخير في هذا السّياق قد يؤدّي إلى فقدان إمكانيّة تلقّف الفُرصة لبناء السّلام، ليس كما ترسمه واشنطن وعواصم القرار الدولي، بل كما ترتئيه مصلحة العَرب والمُسلمين".
وفي مقالٍ آخر تحت عنوان: "السعوديّة وديناميّات التّغيير في العالم الجديد.. هل تُبادر أم تَبقى على الهامش؟" أكّدتُ على ضرورة أن "تُبادر الرّياض لإمساك العصا من مَقبضها ولا تبقى تُراوح مكانها في محور التّوازي مع كلّ الملفّات والأطراف"، ودعوتُ الأمير محمد بن سلمان إلى "اتّخاذ المَوقف المُناسب لكَي تَستعيد المَملكة دَورها الرّائد في المنطقة، وألّا تَبقى على الهامش". ويبدو أنّ دعواتي لم تَقف عندَ حدود الرّجاء والأمنيّات، بل تحقّقت بعد سبع سنوات عِجاف عاشَ فيها البَلدان الجَاران واقع التّباعد، دون أن يشيح كلّ منهما عينه عن الآخر منتظراً إشارة العَودة إلى اللّقاء في مُنتصف الطّريق.
سنتان من المُفاوضات المتنقلّة بين مَسقط وبغداد ساهمت في إنضاج التّسوية – الحلّ برعاية التنّين الصّيني، وبقيَ أمامَنا شهران على اختتام مرحلة اختبار الإستعداد الفُعلي للعَودة الكامِلة عن القَطيعة النّفسيّة بين عملاقَي المَنطقة، ومن المقرّر أن تُعاود بكّين قَريباً جَمع إيران ودوَل الخَليج على طاولة الرّئيس شين جين بينغ وهو الذي لم ينته بَعد من نَشوة احتفاله بتجديد زعامته للبَلد الشّرقي الكَبير الواقف على مَسافة تَماس حامية مع غريمه الأمريكي، ومن المتوقّع أن تكون قمّة مصالحة تاريخيّة تتهاوى فيها الحواجز السياسيّة والدبلوماسيّة، وتُفتح الحدود الجغرافيّة والإنسانيّة، ويَبدو أنّ الجميع حتّى الآن لا يُمانع في اللّقاء، بعدما حاز الإتّفاق السّعودي – الإيراني على أَوسع تَرحيب عَربي وعالمي، يندر أن يلقاه اتّفاق مُماثل، باستثناء إسرائيل التي تبدو، بحَسب مواقف مسؤوليها في الحكومة والمُعارضة على حدٍّ سَواء، الخاسر الأكبر من عقد اتّفاق الأخوة الجيران.
لا شكّ في أنّ الإتّفاق يُشكّل خُطوة متقدّمة من شأنها أن تَخلط الأوراق في المنطقة، وسيترُك تأثيراته على مُجمل الأوضاع وفي مقدّمتها حلّ أزمة اليمن، بحيث بدأت الأطراف المُتعارضة تتحضّر للمُباشرة بعقد جلسات حوار برعاية سعوديّة لإرساء الإستقرار الداخلي، وستمدّ المملكة يد العَون والمُساعدات المالية والعينيّة بعد وَقف حروب المَوت والإستنزاف لكلّ الأطراف، بما يوفّر الأمن والأمان للشّعب اليَمني، ولا يبعد أن يمتدّ هذا التّوافق ليشمُل كلّ الملفّات العالقة بين إيران والسعوديّة في أقطار عربيّة أُخرى كالعراق وسوريا ولبنان.
ويُمكن قراءة الإتّفاق من زوايا استراتيجيّة خمس لها علاقة بالأطراف المعنيّة بالاتّفاق، هي:
أولاً: الصّين التي كرّست حضورها كطرف دولي فاعل ودورها القادر على أن يجمع طرَفي الصّراع على المستوى السياسي، وأن توظّف قوّتها الإقتصادية في استثمار اتّفاقات تجاريّة ضخمة تقدّر بعشرات المليارات من الدولارات وعلى مدى السنوات المُقبلة عقدتها بكّين مع كلّ من الرّياض وطهران خلال العام الماضي.
ثانياً: الولايات المتّحدة الامريكيّة التي لم تَجد - وكذلك أوروبا - حرَجاً في تأييد الإتّفاق واعتباره يصبّ في مصلحة الاستقرار في المنطقة، لأنّها أوّلاً تَعلم أنّ ايران لن تُوافق على أيّ اتّفاق برعاية أو تدخّل امريكي، فلم تُمانع في أن تَبذل الصّين مسعىً تتجاوب معه طهران وتكون فيه الضّامنة للمَوقف الإيراني، ولأنّها ثانياً تعمل جاهدة على تهدئة الوضع في المنطقة ونَزع أي فتائل محتمَلة للتّفجير، حتّى تتفرّغ لحلّ مشاكلها الدّاخلية من جهة ومعالجة العقدة الرّوسية في الحرب مع أوكرانيا من جهة ثانية.
ثالثاً: إيران التي تَعتبر الإتّفاق بمثَابة انتصار لها، وتثبيتاً لمَقولتها التي تُعلنها دَوماً بأنّها تَسعى إلى إرساء حالة سلام مع دوَل الجوار وفي مقدّمتها السعودية، وهي بذلك تلاقي ولي العهد الذي كان بعث بإشارات إيجابيّة قَبل أشهر في لقاء مُتلفز على هذا الصّعيد، هذا إلى جانب قناعتها بأنّ أي مُواجهة سياسيّة أو غير سياسيّة مع دوَل الخَليج سيصبّ في مصلحة إسرائيل، كما تعتبر أنّ أي اتّفاق إيراني - خليجي سينعكس سلباً على الإجتياح السّياسي الإسرائيلي للمَنطقة تحت مظلّة الإتّفاق الإبراهيمي.
رابعاً: المملكة السعودية التي تَرى انعكاساً إيجابياً للإتّفاق لأنّه أوّلاً يُوقف حالة النّزف التي تتسبّب بها جَبهة اليَمن، ويكرّس موقعها باعتبارها "الأخ الأكبر" والقوّة العربيّة الأولى، وكَبح جماح الامارات التي لعبت على هامش الوَقت لتستثمر الإنكفاء النّسبي للرّياض بسبب أزمة العلاقة مع الإدارة الأميركيّة، وسعت لتنصيب نفسها قوّة عسكريّة – أمنيّة إقليميّة ضاربة تُسيطر على مَنافذ البَحر الأحمر؛ ومن غَير المَنطقي تَصنيف المَوقف السّعودي على أنّه تَموضُع جَديد في المُعسكر الشّرقي، فلا يُمكن للرّياض الاستغناء عن العلاقة الإستراتيجيّة مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة، خصوصاً أنّ المَرحلة المُقبلة التي تَشهد عالماً متغيّراً يَفرض عليها أن تكون محوَر الإستقطاب الرّئيسي في المحور العربي، واللّاعب الخَليجي الأقوى الذي يتحدّث باسم العرب في المَحفَل الدّولي، ويحجز مكانَه على طاولةِ الكِبار.
خامساً: إسرائيل، وهي الخاسر الأكبر من هذا الإتّفاق، فيكفي تتبّع مواقف المسؤولين في تلّ أبيب من حكومة ومُعارضة وأحزاب ومحلّلين وإعلاميين وكتّاب ونقّاد، لمعرفَة عُمق الأثَر الذي أحدَثه هذا الإتّفاق، فإنّ نتنياهو يَعتبر أنّ أيّ اتّفاق مع العَرب لن يكون محصّناً إلّا بعقد "مُعاهدة سلام" مع السّعودية تؤدي إلى إنهاء الصّراع العَربي – الإسرائيلي بشكلٍ جذريّ، فضلاً عن أنّ الإسرائيليين يَعتبرون أنّ الإتّفاق السّعودي - الإيراني من شأنِه أن يُفرمِل عَجلة التّطبيع، وقد يَقضي عليه إذا ما اتّسعت دائرة العلاقات الإيرانيّة – العربيّة.
كل ما سَبق لا يعني أنّ المَنطقة ذاهبة إلى الإستقرار بطرفة عين أو بسحرِ ساحرٍ، فلا يَزال هُناك الكثير من المطبّات والأزمات الإقليميّة والعالميّة والمَشاكل الدّاخلية التي تُعاني منها الدول الكُبرى، في ظلّ استمرار الزّحف العَسكري الرّوسي داخل أوكرانيا واشتداد الحَماوة السياسيْة بين واشنطن وحُلفائها من جهة وبين موسكو وبكّين وبيونغ يانغ من جهةٍ ثانية، فضلاً عن تأزّم الأوضاع داخل إسرائيل بما يُهدّد بانفراط عَقد الحكُومة وفَتح الأمور على أكثر من سيناريو قد يؤثّر تالياً على المنطقة، وهذا ما يَستدعي التحلّي بأكبر قدر من التعقّل والحِكمة من قِبَل المسؤولين في طهران والرّياض في مُواجهة أي طارئ قد يَحدث، والتمسّك بالإتّفاق كإنجاز تاريخي ووثيقة تَحصين للمنطقة ودرع حماية لثرواتها ومقدّراتها، وبذلك يُمكن لنا أن نُحافظ على استقلاليّة القَرار والإمساك بزِمَام المُبادرة.