(مبارك الفقيه \ راصد الخليج)
لم تكُن التّسريبات عن إعادة افتتاح القُنصليّة السعوديّة في دمشق بعد 12عاماً على إغلاقها مفاجِئة بل كانت متوقّعة ومنتظرَة، فكلّ المقدّمات الميدانيّة على المَسرح السّياسي تؤشّر لتدَحرج مبادرات التّسوية، ولا شكّ في أنّ الإتّفاق العَتيد بين المملكة السعودية وإيران قد نجح إلى حدٍّ كبير في إزالة جزء كبير من الرّدميّات التي كانت تسدّ الطريق أمام عودة مركبات التّواصل للعبور نحو المُصالحات الشّاملة بين دوَل المَنطقة.
ولئن رجّحت التّسريبات أن يَشهد عيد الفطر المُبارك المُقبل عَودة الحرارة إلى ميزان العلاقات السورية – السعودية، فإن الوساطة الرّوسية – الإماراتيّة، بحسب التّسريبات نَفسها، التي نجحت في تحريك الرّمال الرّاكدة في مُستنقع العلاقات بين البَلدين العربيين، ستَستمر في إجراء المُشاورات وصولاً إلى قيام وزير الخارجية السعودية بزيارة إلى دمشق حيث يلتقي خلالها المسؤولين السوريين وعلى رأسهم الرّئيس السّوري بشّار الأسد، وبذلك تكون الخُطوة الأولى قد أخذت مكانها على طريق عودة العلاقات من جديد من الباب الأوسَع.
سجّلت الصين السّبق في جمع البَلدين الجَارين السعودي والإيراني وحثّهما على إنهاء قطيعة سياسيّة ودبلوماسيّة حادّة، واستفادت من موقعها كصديق وثيق لطهران وشريك فاعل للرّياض في دَفع الطّرفين إلى توقيع اتّفاق برعايتها، ويبدو أنّ الأوان حان لتَلعب روسيا الدّور نفسه بالإستفادة من الظّرف نفسه، فلا ينكر أحد ما لموسكو من إحاطة وتأثير على الموقف السوري نظراً للعلاقات التاريخيّة المتجَذّرة بين البَلدين منذ عهد الإتّحاد السوفييتي وحتّى اليَوم مع روسيا بوتين، في حين خطَت العلاقات السعودية – الروسية أشواطاً متقدّمة من الوثاقة خصوصاً مع سياسة الإنفتاح التي اعتمدها ولي العهد محمد بن سلمان باتّجاه الشّرق، أي روسيا والصّين، وهذا ما يُشجّع على المُضي قدماً في المَسعى التّوفيقي، مع يَقين سياسي بأنّ الأمور ستأخُذ مجراها الطّبيعي.
لعلّ الزّخم الذي يَجري فيه تقدّم الخطوات على طريق فتح طُرُق الحرير بين الرّياض وطَهران، ودعوة العاهل السعودي للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لزيارة طهران، وتحضير طاولة اللّقاء لوزيري خارجيّة البَلدين، قد أعاد الدم الدّافئ في عروق العلاقة بين الرّياض ودمشق، في سيناريو لا يختلف كثيراً عن سيناريو الرياض – طهران، خصوصاً إذا ما ربطنا التّقارب المستجدّ بما ذكَرته صحيفة "الغارديان" البريطانيّة عن زيارة وفد سعودي برئاسة رئيس جهاز المخابرات الفريق خالد الحميدان إلى دمشق في 31 نيسان/ أبريل 2021، التقى خلالها نائب الرئيس السوري بشار الأسد للشؤون الأمنيّة اللّواء علي مملوك، وما حكي عن اتّصالات خارج التّغطية الإعلاميّة بين شخصيّات سورية وسعودية بحثَت في إمكان ترجمة خطوات التّقارب بشكلٍ فعلي، بانتظار الوقت المناسب.
إنّه عالم يتغيّر، هذه العبارة التي انتشرت على ألسِنة رؤساء ومحلّلين تَجِد طَريقها إلى التَبلوُر في قالب غير مألوف، أو لنَقل في مسارات غير متوقّعة، ولكن يبدو أنّ الزّمن وتقلّب الظّروف وتردّدات الحَريق المُشتعل على جَبهة الحرب الروسية – الغربيّة في أوكرانيا، أدّت إلى تحريك حدود الستاتيكو السياسي على المسرح الدولي، لتُعيد نَسج المَسارات الدبلوماسيّة بشكلٍ مُختلف نسبياً، فهناك دوَل كُبرى كانت قد اعتمدَت سياسة الحِياد منذُ أن وضعت الحَرب العالميّة أوزارها قبل سبعين عاماً، بدأت تَستعيد انحيازَها، وتُعاود بناء ترسانَتها العسكريّة، وتُراجع خَارطة تحَالفاتها بفعل الإنزياحات الدّولية التي أفرزتها المواجهة الروسية – الأمريكيّة، كما أنّ أوروبا التي تُعاني شبح الإنقسامات وفَرط التّحالفات بدأت تُواجه تمرّداً واسعاً في بلدان القارّة الإفريقيّة رفضاً لتَقليد استعماري طويل الأمَد، وبدأت الأعلام الروسيّة تَغزو العواصم السّمراء، فكافأها الرّئيس الروسي فلاديمير بوتين بمدّها بالقَمح المجّاني وإلغاء ديونها ذات العشرين مليار دولار.
وفي خِضَم هذا التغيّر يقع محور العالم الكائن في المنطقة العربيّة الغنيّة بالطّاقة الحيويّة في مدار كباش وتقاطع السياسة والمصالح الإقتصاديّة والماليّة الدوليّة، وتَقع السعوديّة في قلب هذا المحور على الرّغم من محاولات التسلّق الإماراتيّة أملاً بموقع فاعل في المُعادلة الجديدة التي تتشكّل، ولعلّ الحفاوة البالغة التي استقبلت فيها أبو ظبي ضيفها الأسد بعد أيّام من الإحتفاء به في موسكو، توضح الخلفيّات التي تَقف وراء التحرّك الإماراتي المتحفّز، وتُبرز الأهداف التي تَسعى أبو ظبي إلى تحقيقها، وكلّ ذلك تحتَ عين الرّياض التي لا تُمانع في أن يُثمر هذا الحراك عن نتائج إيجابيّة تُسهم في لم الشمّل وتُعيد تَثبيت ركائز العلاقة بين الدّوَل العربيّة لما فيه مصلحة المنطقة وتحييدها قدر الإمكان عن أي زلزال مُحتمل.
والسؤال الذي يفرض نفسه يتعلّق بالموقف الأمريكي ممّا يجري، خصوصاً أنّ واشنطن لا تزال تُعلن العداوة مع دمشق، وترفض تطبيع العلاقات معها، ولم تتردّد في انتقاد زيارة الأسد إلى أبو ظبي وبأنّها "أُصيبت بخَيبة أمل وانزعاج عميقيَن"، على حدّ تعبير المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأمريكيّة نيد برايس؛ ولكن يَجدر التّذكير بأنّها الإمارات كانت السبّاقة في إعادة فتح سفارتها في دمشق في العام 2018، ومنذ ذاك الحين وهي تسيّر رحلات لدبلوماسييها إلى العاصمة السورية، كما أنّها الزيارة الثانية للأسد إلى أبو ظبي خلال عام، ووصل إليها بحماية الطٍائرات الحربيّة الإماراتيّة، فيما كان رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان على رأس مستقبليه، مؤكّداً في تَصريحٍ له أنّ "سوريا الشّقيقة رُكن أساسي من أركان الأمن العَربي".
لا تعكس هذه المُجرَيات فعاليّة الإنزعاج وخَيبة الأمل الأمريكيّة، وقد يكون موقف واشنطن من أي اتّفاق سعودي – سوري مُغايراً لما أبدَته من ارتياح للإتّفاق السعودي – الإيراني، بعكس تل أبيب التي تَعتبر أي تقارب عربي مع سوريا تهديداً مباشراً للأمن القومي الإسرائيلي، إلّا أنّ ما يُفهم من هزالة الإعتراض الأمريكي وجود هامش تتحرّك فيه الرّياض باتّجاه خصوم الأمس دون أن يشكّل ذلك تهديداً للعلاقة الاستراتيجيّة التي تَربط المملكة بالولايات المتّحدة، ما يُدركه ابن سلمان جيّداً، فهو لن يُغامر بفرط هذه العلاقة على حساب علاقة مستجدّة مع خصوم واشنطن، إلّا أنّه يُدرك أيضاً أنّ الواقع الذي تَفرضه المتغيّرات الجارية في العالم تُحتّم عليه عدم وضع أوراقه في سلّة واحدة، ولا ضَير في تَوزيع الأوراق كطرف أساسي على طاولة اللّعبة الدوليّة.