(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
منذُ الأيّام الأولى لنشأة دولة الإسلام، على يدِ الرّسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، ارتبطَ شهر رمضان المبارك بالأيّام المصيريّة في حياة الأمّة ومسيرة التّاريخ العربي كذلك، حضر الشّهر الفَضيل دائمًا في اللّحظات المفصليّة للجهاد، ومعارك الإيمان المستمرّة ضدّ قِوى الكُفر والاستكبار، وترك خطوطًا فاصِلة، قبل وبعد، على كلّ نُقطة أراد منها الشرّ تهديد الدّين، لتتحوّل إلى لَحظات خَالدة للإرادة والانتصار.
وقعَت مشاهد عُظمى عدّة، طَوال مسيرة الأمّة، في شهر رمضان، أوّلها في ذروتها العالية، غَزوة بَدر الكُبرى سنة 2 للهجرة، واستمرّت حتّى فَتح مكّة في العام الثّامن، وجاء فيه الفتح المُبين لمَدينة عمورية سنة 223 هجريّة، ووقَعت فيه معركة المَنصورة لصدّ الحملة الصليبيّة التّاسعة، وكانت بحقّ واحدة من أروَع الانتصارات الإسلاميّة واكتمل بهاؤها بأسرِ مَلك فرنسا لويس التاسع، ثمّ وقعَت فيه واحدة من دُرر حكاية الجهاد في مدينة عَين جالوت بفلسطين بين المسلمين والتّتار في 658 للهجرة، والتي انتهت هي الأُخرى بنصرٍ مُبين، أوقَف الزّحف التّتاري الهمَجي على بِلاد الإسلام.
وأخيرًا وقَع في الشّهر الكَريم الهُجوم العربي النّاجح في العاشر من رمضان 1393، المُوافق للسّادس من تِشرين الأوّل/ أكتوبر 1973، لتكتب من جديد أنّ الإنسان العربي المُسلم قادر إذا ما توفّرت القيادة ذات الكفاءَة، على صِناعة المُعجِزات، وعلى كَسر كلّ عوامل التفوّق والقُدرة والاستكبار، مهما كانت القوّة التي تَقف أمامهم، وأنّ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة لم تتخلّف لأنّ أبناءها أقلّ درجةً في الذكّاء ولا تنقُصها الإرادة، لكنّها فقط تحتاج –مثلها مثل أي تجمّع إنساني- إلى قائد حكيم، يستطيع الفَهم والتّوجيه، ويَمتلك الأعصاب ويتمتّع بالرّؤية، وتدفعه الرّغبة إلى المُضي في طريق تحقيق الأماني العُظمى لجماهيره.
يُطلّ علينا الشهر الفَضيل، في هذا العام، مع أزمة مستمرّة وأنباء كارثيّة يتلو بعضها بعضًا، المسرح الدّولي اشتعل منذ الصّدام الروسي ضدّ حلف النّاتو في أوكرانيا، وتبعات وضرائب الانفجار تعدّت مواقعها لتلطم كلّ دوَل العَالم بآثارها المدمّرة، والاقتصاد العالَمي يمرّ بأزمة صاعِقة، لا يكاد يتبيّن الشّخص حدود أو عُمق مداها، مهما بالغ في الرّصد والفَهم، فمن ارتفاعات هائلة في أسعار الغذاء وصعوبات تأمينه، والدّول العربيّة كلّها مستوردة عاجزة، إلى التّراجع المروّع لأسعار النّفط، مع رغبة أميركيّة شديدة في لَي عُنق الاقتصاد الرّوسي القائم على تَصدير المواد الأوّلية، ثمّ الأزمة البَنكية التي أطلّت من الولايات المتّحدة وانتقلت عدواها عبرَ الأطلنطي إلى أوروبا، فإذا الكلّ مكشوف مهدّد في الأوضاع الضبابيّة الحاليّة.
كعادتها التي لن تضطر إلى شرائها، تعاملت الأنظمة العربيّة –كلّها- مع الأوضاع العالميّة التي توشك على الانقلاب، وعلى ألسنة النّار التي تَصل مباشرةً إلى قلب المُدن والعَواصم، وتَجلد النّاس بسياط حارقة، أن تقِف كالصّنم، لا حركة ولا مُبادرة ولا رؤيَة، وجُل ما قدّمه الخطاب الرّسمي العَربي للنّاس هو أنّها أزمة عالميّة لا سبيل إلى الهروب من دَفع ضرائبها، وهكذا انتشر وسَيطر شعور عام باليأس واصطبَغت أرواح النّاس بالإحباط الشّديد المُجهد.
المَملكة السعوديّة هي الأُخرى لم تَستغلّ ظروفها، أو بالأدقّ الهديّة القدريّة، التي تمثّلت في ارتفاع ضَخم بأسعار النّفط طوال العام الأوّل للحَرب الرّوسية في أوكرانيا، وهي بالتّالي اليَوم تَقف عاريَةً أمَام حقيقة تراجع الأسعار مع الضّغط الشّديد على الاقتصاد العالمي الهش، وهي أيضًا لم تستغل الشّهر الفضيل في إعادة توجيه فكرها ليُحقّق مصالح شعبها، وإنّما أغرقت النّاس في مَلهاة ومسرحيّة تحت عنوان التّرفيه، حوّلت الشّهر الكريم إلى حفلات مستمرّة ومُتتالية، تَضعف أكثر فأكثر المجتمع، وترسم طريقًا وحيدًا له إلى الجنون الرّسمي.
قبلَ أكثَر من قرن ونصف تقريبًا، نهض أحد أبرز المفكّرين والمؤثّرين العرب –مؤثّر حقيقي ليس على مقاس هيئة التّرفيه- ليقرأ بوَعي نادر وعَقل ناضج وفهم ورؤية عميقَين، كلّ أسباب التخلّف العَربي في نهاية القرن التّاسع عشر، ونَذر عمره لقضيّة إحياء إرادة الأمّة، رُغم الأثمان الهائلة التي دفعها، نفيًا من مدينَته، حلب السوريّة، ثمّ أخيرًا دسّ السّم له في القاهرة، بعد رحلة طويلة طوفَت به أقاصي شرق آسيا في الصين والهند، والسواحل العربيّة في إفريقيا، نهاية بوضع كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع العباد"، وهو لا شكّ أهم كتاب عربي خلال قرون.
ويقول عبد الرحمن الكواكبي، في كتابه الجَليل "طبائع الاستبداد ومصارع العباد"، معدّدًا أسباب تخلّف العالم الإسلامي كما عاينها في عصره، "إذا كان كبار الأمّة قد ألِفوا النّفاق والرّياء مرضاة للمستبد، فعامّة النّاس سيألفونها أيضًا، حتّى يضطر أكثر النّاس إلى إباحة الكَذب والتّحايُل والخِداع والنّفاق والتذلّل وإهانة النّفس، حتّى يُصبح من القِيَم المُعتَرف بها، اعتبار التّصاغُر أدبًا، والتّذلّل لُطفًا، والتملّق فصاحَةً، وترك الحقوق سماحَةً، وقبول حريّة القَول وقاحَةً، وحريّة الفِكر كفرًا".. وما أشبه يومنا وأزمتنا بالواقع الذي وصَفه العَبقري النادر.