(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
دتروي حكاية نشأة المراكز الماليّة العالميّة، مباشرة وبمنتهى الصّدق، ذروة الصّراع بين الدّول على الدّور وحِيازة أوراق التّأثير، من لندن إلى نيويورك ثمّ سنغافورة وهونغ كونغ، كل مدينة تمثّل ذروة عالية ضمن ذرى صراع التطوّر الإنساني، وقبل كلّ شيء وكلّ منها تروي قصّة تَصل بين المَطامع والطّموحات وبين الحوادث والتطوّرات، إلى الحدّ الذي يُمكن معه اعتبار صعود المُدن حلقة في سلسلة أو مشهد في حكاية أو معركة في حرب واحدة، ومستمرّة.
كان صعود مدينة ما لتُصبح مركزًا ماليًا عالميًا مُعترفًا وموثوقًا واحدًا من بؤَر الصّراع السّاخنة بين الدّول الكُبرى خصوصًا، وكلّ مدينة تَملك نُقطة بَداية فاصلة فجّرت الطّاقة والإرادة، لحظة فريدة ومَجيدة، لا تبرز فجأة من المجهول أو الفراغ، وإنّما هي رمز وتجسيد لما هو أكبر منها وما هو أبقى، وهي نقطة مركزيّة في تاريخ أيّة دولة، لها ما قبلها، ولها أيضًا ما بعدها في حياة أمّة تبحث عن نفسها وعن دورها وعن مُستقبلها.
هل تحتاج المَملكة العربيّة السعوديّة حقًا إلى اختراع العَجلة من جديد، في الحَقيقة لا أحد يَحتاج ولا أحد ينتظر، لا تستطيع أن تفكّر في الصّعود إلى الفَضاء قبل أن تملك صِناعة سيّارات مثلًا، ولا يُمكن أن تعتمد على مَصدر ناضب للثّروة لتُخطّط لمستقبل من نوعٍ ما، قد تُساعد الموارد في صناعته وتقريبه، لكنّها لن تشتري هذا المستقبل على الإطلاق.
التّخطيط هو الجزء المفقود من أحجية الواقع السعودي، ومن يَضع أولويّات الملف الاقتصادي إمّا أنّه أعوَر، يرى الواقع بعين واحدة، أو أنّه لا يرى الواقع أصلًا، وفي المُطلق فإنّ دولة ما لا تملك إمكانيّات التّخطيط السّليم فإنّها لن تتقدّم أبدًا إلى الأمام.
باختصار فإنّ قصّة تحويل الرياض إلى مركز مالي عالمي مجرّد استعراض إعلامي جديد، لا يمتّ للواقع بصِلة، وخُطط تحويل مكاتب الشّركات العالميّة للتّواجد والعمل في الرّياض، بتقديم مُنح هائلة وحَزم تحفيز باهظة، لن يحقّق في المستقبل الشيء الكثير، مثله مثل كلّ القرارات واللّافتات التي تخرج إلى العلن لمحاولة الإيهام بوجود إنجاز ما لولي العهد محمد بن سلمان.
الأهم في حكاية هذه المراكز العابرة للحدود إنّها أصدق ترجمة للأهميّة السياسيّة والاقتصاديّة للدّولة، وعلى هذا الأساس وحده يتمّ ترتيب المدن في قائمتها، وطبقًا لتصنيف مؤشر المراكز الماليّة العالميّة GFCI الذي تنشره شركة الاستشارات Z/Yen Group، في المركز الأوّل تأتي مدينة نيويورك لتعكس أهمية الاقتصاد الأميركيّة وقوّته السّاحقة التي تتمَحور حول ورقة الدولار التي تُعدّ عملة التّبادل العالميّة، وفي المركز الثاني تحلّ لندن، حيث ظلال الإمبراطوريّة القديمة وأعرق البنوك والشّركات الماليّة، ثمّ تأتي هونغ كونغ، بفعل الأهميّة الحيويّة لجنوب شرق قارّة آسيا، سواء بتحوّلها إلى مَصنع العالم حاليًا، أو التوقّعات المستقبليّة بدور أكبر وأعمق للصين في الاقتصاد العالمي.
في كلّ قائمة أو تَصنيف للمَراكز الماليّة العالميّة لن تحضر مدينة عربيّة إلى القمّة، ولا إلى العَشرة الأوائل، بما يعكس حقيقة أنّها أقرب إلى مراكز إقليميّة أو نقاط صغيرة على خطّ التّعاملات الماليّة العالميّة، إنّما لا هي وجهات نهائيّة ولا هي محطّات فارقة على الطّريق، على سبيل المثال فإنّ أوّل المدن هي دبي، وتحتلّ المركز الثّامن عشر في القائمة، وتليها عربيًّا أبو ظبي (الترتيب 36 عالميًا)، ثم الرّياض (الترتيب 101 عالميًا)، ومدينة الكويت (الترتيب 108 عالميًا).
قبل أن نتحدّث عن خُطط تحويل الرّياض إلى مركز مالي عالمي، كان لا بدّ أن تتحوّل إلى مركز إقليمي، على الأقل، وهذا ما لا يوجد في الواقع الحقيقي، والهدف الكبير ليس أكثر من مشروع استنزاف جديد وكبير، يصلح لكي يكون لافتة برّاقة تخطف الأنظار وتلفت الانتباه، لكنّها لن تُغيّر شيئاً في الواقع أو المستقبل.
في الواقع فإنّ ما يَصبغ المَشهد العالمي اليوم هو القلق من مجهول، وهذا المجهول هو الذي يجمع الكلّ في ضبابه، الدّول الكُبرى الصّاعدة والطّامحة إلى دَور يُناسب عصرها الجديد لديها أسبابها لتَعليق الأمل على مجهول، لا تزال تجهل شكله، والولايات المتّحدة، القوّة العالميّة المُسيطرة، تملك أسبابًا أكثر للخوف من مجهول قد تسحقها وطأته، وفي هذه الظروف التي يتصرّف فيها الكلّ بعصبيّة حدّ التشنّج، لا بدّ من التعقّل في كلّ خطوة وكلّ قرار، والدّولة لن تتحمّل كلفة قرار خاطئ أو خطوة متسرّعة، فالخسارة هنا ستجلب معها المزيد من الخسارة والنّزيف ونسف كلّ أسباب الأمل.