(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
تمتلئ حكايات الأدب الأوروبي الشّعبي، خصوصًا في ظلام العصور الوسطى وآلامها وعذاباتها بين استبداد الملوك ونفوذ الكنيسة الخانق وقبضة الإقطاعيين الخانقة، ظهرت إلى الوجود للمرة الأولى أسطورة شعبية "فاوست"، ورغم إنّها كانت حكاية شعبية تختلف في كلّ بلدٍ وكلّ لغةٍ، إلّا أنّ الشّاعر الإنجليزي الشهير كريستوفر مارلو، ومن بعده الأديب الألماني الأهم جان فلفانغ غوته، في منتصف القرن السادس عشر، قد تكفّلا بوضعها في أعظم إطار أدبي ممكن.
ببساطة تروي الحكاية بحث الإنسان عن الحل، وفي قصّة "فاوست" فإنّ البطل الذٍكي والفقير قد حاول بالطّرق المُتاحة إشباع رغباته وإطفاء ظمئه للحياة، وفي سَعيه الحثيث للوصول إلى مكانة يتمنّاها، فقد برع في علوم الكيمياء والسّحر، واستحضر أحد أرواح الشّياطين "ميفستوفيليس"، ويوقّع الاثنان عقدًا بالدّم، على أن يلبّي الشيطان كلّ مطالب وأمنيّات فاوست لمدّة 24 عامًا، ثمّ تُصبح روحه ملكًا للشيطان.
وبين اختلافات الحكاية وأحلام فاوست، سواء طلب تحقيق الثّراء والشّهرة والنّفوذ، أو الحصول على أكسير الشّباب، فقد مرّ الوقت السعيد سريعًا جدًا بالإنسان، ولم يُحقّق ما كان يأمله حقًا –أو ما كان يظنّ أنّه يُريده- وجاءت النّهاية عبر مُطالبة الشيطان بنصيبه من العقد، ليحاول فاوست التّحايل وتمزيق العقد، إلّا أنّ الشيطان قتله ثمّ شوّه جثّته بلعنة أبدية، وهذه النهاية هي المتّفق عليها، كمآل طبيعي ومنطقي لمن يبيع روحه مقابل أي شيء كان.
الكلمة التي تميّز الحكايات كلّها هي "صفقة" وهي كناية عن اتّفاق سرّي، يُحيط به الغموض وتلفّه الشّكوك ويُثير في القلوب الرّيبة، ويخلق بذاته مناخًا من القلق، ويترك الواقع كلّه رهنًا للخوف ينهشه بلا رادع من ثقة ويحكمه، ويحكمنا.
القرارات السعودية المتتالية، أو الخطوات، التي تسارعت على مدى شهر نيسان/ أبريل الجاري كلّها بالتأكيد تنتمي إلى ما يُسمّى الصفقات، فالمُتابع لا يُدرك إن كانت تحرّكات سلطة تعرف الواقع وتدرك تحديّات المستقبل وهي تفعل ما تفعل للإصلاح، أم أنّها مجرّد خطوات وحركات في الطريق ذاته الذي اختبرناه مرارًا وتكرارًا، هل هناك سياسة سعودية جديدة تتحسّب للأزمة الاقتصاديّة التي تضرب العالم وتهدّد الجميع، أم أنّها لا تزال تُراهن على استمرار المُعادلات القديمة في عالم يتغيّر بسرعة لم تعد قدراتنا المحدودة وفكرة الاقتصاد الرّيعي تستطيع أن تُسايرها.
آخر ما جاد به علينا ولي العهد محمد بن سلمان، كان الإعلان الدرامي عن نقل حصّة من أسهم شركة الزيت العربية "أرامكو" إلى شركة سنابل للاستثمار، قيل إنها 4%، شكليًا فإن ما جرى هو إعلان ينقل الأموال من الجيب الأيسر إلى الجيب الأيمن لنفس الشخص، فالكيانان مملوكان للدولة –أو ما يفترض به كذلك- وواقعيًا نقل الملكيّة لا يعني سوى زيادة مداخيل شركة الاستثمار "سنابل"، لتعزيز قوائمها الماليّة بمدخولات هائلة من عوائد النّفط.
شركة سنابل للاستثمار، والمملوكة بشكلٍ رسمي لصندوق الثروة السعودي، أصبحت الآن تمتلك موارد مالية متعاظمة، فوق ما تملكه من تدفّقات مالية هائلة من الصندوق السيادي، لكن السؤال الأوّل، ما الذي تفعله هذه الشّركة بمليارات الدولارات التي تحصل عليها، أو ما هي طبيعة استثماراتها وبالتالي الهدف من وراء هذا كلّه.
الواقع أنّ الشركة تستثمر في الأسهم وتقنيات لا تزال في طور التطوّر، يشمل اهتماماتها –بحسب موقعها وبيانات سعودية رسميّة- شركات مالية ووساطة وأسهم، مثل: Blackstone و KKR & Co. و Andreessen Horowitz و General Atlantic و Hellman & Friedman و Platinum Equity، ثمّ شركات تكنولوجيا ومحرّكات بحث Atomwiseو ActionIQ وVectra.
هل ستُضيف "سنابل" بالفعل للاقتصاد السعودي، والهدف الأولَى اليوم، وهو تنويع الاقتصاد القائم على النّفط، بالتّأكيد فإنّ الإجابة ستكون أي شيء إلّا نعم، مجالات نشاط الشركة وأعمالها والأسواق التي تنشط فيها لا يمكن أن يمنح الشخص شعورًا بالاطمئنان أو التّفاؤل، وغاية ما أمكن الحصول عليه من الغرب بعد قرن من اكتشاف النّفط هو صناعات بلاستيكيّة في "سابك"، تملك أفقر الدّول الآسيويّة مثلها أو تتفوّق عليها.
ما يُمكن أن يُغيّر طبيعة الاقتصاد السّعودي هو برنامج واضح يرى الأزمة العالميّة، وأفول العصر الأميركي، ونجمة المستقبل التي تلمع فوق الصّين، والاتّجاه بكلّ قوّة وإرادة إلى هذا الطّريق لمحاولة اقتناص فُرصة للمُستقبل، السّوق السعوديّة هي الأضخم والأكثر نموًا والأغنى عربيًا، وفُرصة الاتّفاق –لا الصّفقة- مع الصين لتوطين الصّناعات ممكنة وقريبة، لكنّهاتحتاج قبل كلّ شيء إلى رؤية وإلى فَهم، وإلى إدراك إن الضرورات الملحّة لمصالح الأُمَم والشّعوب لا تخلقها مُصادفات طارئة، ولا تصنعها أزمات استجدّت على صفحة الحياة بشكلٍ مفاجئ، لكن المصادفة والصّدام قد تكون مُناسبات للتّذكير بهذه المصالح والتأكيد عليها، كما أنّ كلّ أزمة، مهما بدا من عُمقها وآلامها، تحمل في أضلاعها فرَصًا أكثر من غيرها لإعادة تصحيح المسار، وطرح الحلول النّاجحة، واستثمار أوقاتها العَصيبة في ضخّ الدّماء للمفاصل والأطراف.