(مبارك الفقيه \ راصد الخليج)
بعد ما يقارب من اثني عشر عامًا على ابتعادها خارج السّرب العربي؛ عادت سوريا إلى حاضنة العرب من بوابة المملكة السعوديّة؛ ولم تكن استعادة سوريا لمقعدها في الجامعة العربيّة ممكنًا إلا بعدما أفلحت اتصالات كانت تجري في الخفاء، قبل عام ونيّف بين دمشق والرياض، لتذليل العقبات التي كانت إلى أمد قريب بمثابة الأسوار العالية أمام اتّحاد العرب. وكان لـــــ"أبو ظبي" قصب السّبق في مدّ جسور التواصل مع سوريا بما مهّد لهذه العودة وكسر الحاجز النفسي داخل البيت العربي، فيما أسهم الصّراع المتأجج بين الشّرق والغرب على السّاحة الأوكرانيّة في نزع آخر مفاعيل التردّد لتعود المياه إلى مجاريها العربيّة.
لقد كان الرئيس السّوري "بشار الأسد" سعيدًا حينما تسلّم من السّفير السّعودي، في عمّان "نايف بن بندر السديري"، دعوة دعوة العاهل السّعودي الملك "سلمان بن عبد العزيز" لحضور القمّة الثانية والثلاثين التي ستعقد في جدّة في 19 أيار / مايو الجاري. فقد كان اللّقاء عامرًا بالودّ والآماني "بالأمن والاستقرار في البلدين الشّقيقين؛ حكومة وشعبًا"، بعكس ما كان متداولًا لأكثر من عقد من الزمن في خطابات مسؤولي هذين البلدين. وهذا ما يبشّر بمرحلة جديدة من التلاقي العربي الذي لم يجد له ضدًّا وتنديدًا إلا في واشنطن و"تل أبيب" وبعض العواصم الأوروبيّة التي طالما ردّدت صدى الموقف الأمريكي لزومًا للتبعيّة المفروضة عليها سياسيًا واقتصاديًا.
إزاء هذا الوضع؛ يمكن فهم مدى الإصرار الذي اتّخذته "الرياض" في المضي قدمًا نحو جمع البيت العربي، خصوصًا بعدما استطاع الأمير "محمد بن سلمان" تعبيد طريق المملكة العريض نحو الشّرق في انعطافة كبيرة، لينشئ ما يشبه الحلف السّياسي – الاقتصادي مع كلّ من روسيا والصّين وإيران. فمن المنطقي أن يستتبع ذلك انعطافة موازية نحو ترتيب البيت العربي الدّاخلي، وبقيادة الرياض أيضًا، نظرًا إلى التداخلات العضويّة التي تفرضها العلاقات ما بين أضلاع هذا الحلف.
هذا ما وضع المملكة – بحسب ما رأى محلّلون – في موقع الندّية مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة، خصوصًا بعدما رافقت هذه التحوّلات فرملة فعليّة لمعظم المشاريع التي كانت تعمل واشنطن على تنفيذها في المنطقة، والتي كان من المفترض أن تكون فيها "إسرائيل"اللاعب الأكبر والأكثر تأثيرًا. ولئن كانت الكويت وقطر الدولتان الوحيدتان اللّتين تتحفّظان على عودة سوريا- بعد تذليل عقدة المغرب- إلا أنّ الوقائع تشير إلى أنّ الأمور تسير في موردها الطّبيعي، بانتظار ما ستحمله القمّة العربيّة من معطيات وخلاصات من شأنها رسم ملامح المرحلة المقبلة، خصوصًا إذا شارك فيها الرّئيس "الأسد" شخصيًا، ما يعني تمثيلًا على أعلى مستوى. وهذا بحدّ ذاته مؤشر على استشراف الخطوات اللاحقة التي ستشكّل "بداية الحركة وليست نهاية المطاف"- على حدّ تعبير الأمين العام لجامعة الدول العربيّة "أحمد أبو الغيط"- "بمعنى أنّ مسار التسوية للأزمة السوريّة ستأخذ مرحلة من الإجراءات"، وما يعني أيضًا تأثير هذه الإجراءات على مجمل الملفات الشائكة في الواقع العربي، من اليمن إلى لبنان وصولًا إلى تصفير الأزمات في المنطقة.
من يراجع تواتر الأزمات، في المنطقة العربيّة، التي تعود إلى ما قبل العام 2011 على وقع ما عرف بـ"الربيع العربي"، يجد أنّه كان يراد لهذه المنطقة أن تعيش حالًا من التفتّت والتشرذم وانعدام الاستقرار وتشظّي الاتجاهات؛ حيث تصبح ساحة صراع تختلط فيها عوامل الضغط الداخلي والخارجي، فتصل إلى مرحلة تقبّل أي مشروع جديد، سواء حمل اسم "الشّرق الأوسط الجديد" أم "الشرق الأوسط الكبير"، أو تمخّض عن إنشاء حلف عربي – إسرائيلي ذات بُعد ديني مذهبي. إلّا أـنّ ما حصل من نتائج لم يجرّ على العرب أنفسهم إلا الويلات، فكانوا كمن يلحس المبرد، مع ما ترافق من خسائر ماليّة واقتصاديّة واجتماعيّة هائلة، وبذلك أصبح تطبيق المثل الصّيني أفضل علاج، فلو مشى المرء في طريق وضلّ عن سبيله فما عليه إلا أن يعود إلى نقطة الإنطلاق، بدل أن يتيه في طرق ودروب توصله إلى الهاوية.
لقد أتى الدّفع باتجاه عودة سوريا إلى الحاضنة العربيّة خطوة في المسار الصّحيح. ولعلّ تلقّف دمشق مبادرة الرياض والعرب إيجابًا تسهم، بشكل فاعل، في توفير عناصر استقرار المنطقة، مع أهميّة استثمار الاتفاق السّعودي – الإيراني والإفادة من المظلّة الصينيّة – الروسيّة، فكلّ ذلك سيؤمن للمنطقة وأنظمتها عوائد مهمّة على الصعيدين السّياسي والاقتصادي، ويوفّر لها عوامل الاستقرار في عالم يتغيّر ويتّجه إلى الصّدام شبه الحتمي بين قوى الشّرق والغرب,
إذ إنّ "واشنطن" لم تفِ يومًا بوعودها، و"إسرائيل" تتحيّن دومًا الفرص لتثبيت مكانتها في المنطقة، ولكن ما يشهده العالم، اليوم، لا يحتمل إنكار واقع جديد مفاده أنّ أوروبا تتفكّك وتترهّل، ولم تعد الولايات المتّحدة الأمريكيّة اللّاعب الأقوى والأوحد في المسرح العالمي.. أمّا "إسرائيل" المنقسمة على ذاتها فهي تعاني نوازع البقاء وفاقًا لما يصرّح به مسؤولوها، وهذا يحتّم على العرب أن يوثّقوا عرى التلاحم باتجاه فصل متين من العلاقات بمواثيق أكيدة لا بتسويات مرحليّة.