(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
طوال التاريخ الإنساني، والممتدّ لآلاف الأعوام، ظلّ الفضاء الحلم الأبعد لأوّل إنسان رفع رأسه ليعاين لوحة الخالق الجبّارة في السّماء. حضارات بشرية كثيرة اهتمّت بعلوم الفلك ومواقع الكواكب والنّجوم، لمحاولة فهم هذه المصابيح التي تتدلّى فوق رؤوسنا. ومع البعد الذي لا يُطال بإمكاناتهم البدائيّة؛ طغت موجات الغموض والرّجاء والخوف، ما كان نتيجته الطبيعيّة هو التجاء البعض لتقديس هذه الظواهر الكبرى التي لا يفهمونها، ولا يستطيعون لها سبيلًا، وحتّى من لم يقع في هذا الفخّ، فإنّه وقف بذهول وانشداه أمام الفضاء الواسع البعيد، والخارج عن حدود قدراته ومدى تصوره.
قبل منتصف القرن العشرين بقليل، وبالتحديد في العام 1942، كان علماء ألمانيا النازيّة يحقّقون سبقًا إنسانيًا خالدًا، بإطلاق أوّل جسم من صنع بشري خارج مدار الأرض، هو الصاروخ "A-4"، من تصميم مهندس الصواريخ العبقري "فيرنر فون براون". لكنّ العادة البشريّة الخالدة بتقديس روايات المنتصرين قد حكمت على هذا الإنجاز المذهل بالدّخول إلى غياهب النسيان، ونزلت تاليًا ستائر الظلام والنسيان على هذا الحدث الفارق في مسيرة التقدّم والحضارة البشريّة.
بعد الحرب العالميّة الثانية مباشرة، وعقب اقتسام غنائم النّظام النّازي، كان العلماء الذين وقفوا وراء مشاريع الصّواريخ الألمان ضمن التركة الكبرى التي اقتسمتها القوتين العظميين، الولايات المتّحدة والاتّحاد السّوفياتي السّابق. ومن حيث أنتهت ألمانيا؛ بدأ العملاقان الجديدان صراعهما الجبّار نحو الفضاء، ونحو تأكيد التفوّق وصناعة صورة الدّولة القادرة على تحقيق أحلام الإنسانيّة كلّها، وأوّلها اكتشاف هذا الفضاء الملغّز.
كان الفضاء هو العنوان الأبرز على مدى عقدي الخمسينيّات والّستينيّات من القرن العشرين. في هذا السّباق المثير بين عملاقين متصارعين، لا يملك أحدهما أن يواجه الآخر عسكريًا، تلك المواجهة ستنتهي بدمار شامل، وفي أفضل الأحوال الانتصار. ستترك المنتصر، كما المهزوم، يعاني آثارًا فوق الطاقة وخارج قدرة الاحتمال. بدأت موسكو وواشنطن هذا التنافس العلمي في الفضاء، كساحة ممكنة لتحقيق نصر معنوي هائل وكبير، يمنح الفائز منهما مزيدًا من النقاط في حربهما الباردة، ومساحات ضخمة للتأثير والنفوذ وتقديم نموذجها لدول العالم كلّها كونها مثال النّجاح والتفوّق.
نتيجةً لطبيعة الاتّحاد السّوفياتي السّابق كبلد يعتمد التخطيط الاقتصادي القومي، وتملك الدّولة فيه وسائل الإنتاج كافّة، وتاليًا قدرتها على حشد مواردها لصالح مشروعات بعينها، حقّق السّوفيات انتصارات أوليّة كبرى، بإطلاق أول مركبة فضاء "سبوتنيك" في العام 1957، ثمّ أوّل حيوان إلى الفضاء الكلبة "لايكا" في العام ذاته، وفي 12 نيسان/ أبريل 1961، أصبح رائد الفضاء السّوفياتي "يوري غاغارين" هو أوّل إنسان يصل إلى الفضاء، في مناسبة أصبحت تاريخًا للاحتفال بيوم الفضاء العالمي، ومن بعده صارت "فالينتينا تيريشكوفا" أوّل امرأة تسافر إلى الفضاء في العام 1963.
أمام هذا النجاح السّوفياتي المذهل، كان على الولايات المتّحدة أن تغير نهجها في التعامل مع الفضاء، فأصبح هدف وصول أوّل إنسان إلى القمر مشروعًا وطنيًا يحمل صبغة الأولويّة القصوى بالنسبة إلى الأميركيين، في الوقت الذي تلقت فيه جهود الاتحاد السّوفياتي ضربة مؤلمة برحيل العالم الأبرز المسؤول عن جهدهم العلمي "سيرجي كوروليوف"، في العام 1966. فحقّق الأميركيون هدفهم أخيرًا في 21 تموز/ يوليو 1969، بخطوات "نيل آرمسترونغ" على سطح القمر، في حدث كان الأكثر جذبًا للانتباه عالميًا في القرن العشرين كلّه.
كالعادة؛ استثمر الإعلام الأميركي المتفوّق، والمرتفع الصوت وواسع النفاذ، هذه الصورة لرائدهم على القمر، ليمنح الولايات المتّحدة النصر النهائي في هذا السّباق، مع نفاد البخار من رغبة الروس في الوصول إلى القمر. ورغم ما أحاط بعمليّة المركبة "أبوللو" كلّها من شكوك عميقة وتساؤلات ما تزال قائمة حتى اليوم، ونظريات من قلب الولايات المتّحدة ذاتها تجزم بأن العمليّة كلّها كانت فيلمًا مثيرًا من إنتاج وإخراج وكالة الفضاء "ناسا" على الطراز الهوليوودي، فإنّ ما سُجل فعلًا هو أن واشنطن قد أحرزت قصب السّبق في هذا المضمار.
المثير أنّ الدّولتين الكبيرتين كانتا تقدّمان النّموذج الراقي على العمل المستمر الدؤوب الطويل نحو هدف كبير، ولو إنّ الولايات المتّحدة التي خرجت منتصرة وحيدة من الحرب العالميّة الثانية قد استفادت، بشكل أكثر خبثًا، من حقيقة أنّ دمار الحرب لم يطل أراضيها المعزولة بالمحيطات، وأنّها تحوّلت فيما بعد إلى قبلة لصفوة العقول البشريّة، منحوها خلاصة فكرهم وجهدهم وعبقريتهم، ومنحتهم هي الفرصة للإبداع والمجد والمال والشهرة. فالعالم الألماني "فيرنر فون براون"، مثال واحد من أرباح عمليّة "مشبك الورق" الأميركيّة لنقل علماء الرايخ الألماني إليها، قد جرى غسيل تاريخه الأسود في العمل مع النظام النّازي والتوّرط في مأساة "عمال السخرة"، مقابل أنّه قدم للأميركيّين إمكان التفوّق على السّوفيات في غزو الفضاء.
ما يمكن قوله هو إنّ الخيال كان – وسيبقى- الوقود والمحرّك للإنجازات البشريّة. وهو الشرط الأوّل لقهر مشكلات الواقع وعجز الأدوات وعبور أوعر الطرائق. الخيال للعقل الثاقب يمثّل المحفّز وعنصر التنشيط، أوّل عالم صواريخ، بالمعنى المعروف لهذه الكلمة، "فون براون"، كان يدين بالفضل في اهتمامه بعلوم الصواريخ وفكرته المبكرة عن الصعود إلى الفضاء لرواية خيال علمي هي: "صاروخ في الفضاء الكوكبي" من تأليف العالم الألماني "هيرمان أوبرت"، وصار عضوًا بجمعيّة "السّفر عبر الفضاء" التي تشكّلت من جملة الحالمين بتحويل هذا الكتاب إلى واقع..
هناك نوع آخر من الخيال، وهو الخيال المريض، تكفي سيطرته على عقل حاكم لتودي به وبمن حوله إلى فضيحة أو دمار، أو كليهما معًا. وهذا النّوع هو المعتمد في عالمنا العربي- للأسف- الرغبة المحمومة في الحصول على أي إنجاز وهمي، لكنّه يكفي لالتقاط صورة للحاكم الأبله، وتصدر العناوين الضخمة ذات الألفاظ الجزلة الرنّانة.
في العام 2019، جرّبت دولة الإمارات العربيّة المتّحدة عبر مركز "محمد بن راشد" للفضاء تحقيق هدف من هذا النوع الرخيص، فأوفدت "هزّاع المنصوري" على متن رحلة إلى محطة الفضاء الدّوليّة بصفته رائد الفضاء وصورة دبي الجديدة، كما يريدها حكّامها المفتونون بالغرب. وسرعان ما كشفت "وكالة ناسا" والصذحف الأميركيّة حقيقة الرحلة، فإذا بالوكالة ترفض تعريف "المنصوري" على أنّه رائد فضاء لكنّها منحته لقب "زائر"، ثم تكشف صحيفة "نيويورك تايمز" أنّ القصّة بأكملها عبارة عن شراء مقعد/ تذكرة على متن رحلة كبسولة الفضاء سويوز.
الحاكم الجديد، في المملكة العربيّة السعوديّة، يحاول اليوم أن يعيد تقليد الفضيحة الإماراتيّة، فأعلن رسميًا عن إرسال رائدي فضاء سعوديين إلى رحلة لمحطة الفضاء الدوليّة "ريانة و"علي"، وسط وميض لا ينتهي من أضواء "فلاشات التصوير"، وتقديم "محمد بن سلمان" – رئيس مجلس الفضاء- على أنّه قائد هذه السعوديّة الجديدة التي استطاعت برؤيته وحكمته أن تغزو الفضاء!
قد يكون ما يحدث كلّه ينتمي إلى عالم "الفانتازيا" أكثر مّما يحمل من حقائق الواقع، قد يكون توصيفه الأقرب هو العجيبة الثامنة للدنيا، حيث دولة لمّا تصنع بعد دراجة هوائيّة تمرّر رسائل بأنّها صعدت إلى الفضاء، في شبه يقين يسيطر على الحاكم المندفع بأنّ امتلاك قشور الحضارة والنّطق بلسانها والتلّون بصبغتها قد يصنع حقيقة.. في الواقع؛ فإنّ هذا التصوّر قد يصنع "فتاة جيشا" من الثقافة اليابانيّة التقليديّة، لكنّه أبدًا لن يغيّر الأرض.