(أحمد شوقي \ راصد الخليج)
تتصدّر السّعوديّة ملف الوساطة بين الأطراف المتصارعة، في السّودان. وهو أمر قد تدرّج منذ بداية الأزمة، حين دخلت إلى جانب مصر، وتحت عنوان "الآليّة الرباعيّة الدوليّة"، والمكوّنة من دولة الإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة العربيّة السّعوديّة وبريطانيا والولايات المتّحدة الأميركيّة، ثم سرعان ما تقلّصت هذه الوساطة لتصبح سعوديّة- أميركيّة خالصةً؛ حيث كرّستها السعوديّة بــــ"اتفاقات جدّة" بين الفرقاء السّودانيين.
لكن سرعان ما تبيّن ضعف هذه الوساطة. فقد رأى المراقبون أنّ هناك ثغرات، في "إعلان جدّة"؛ ومنها مثلاّ: استبعاد ممثل الخارجيّة أو الحكومة في التّوقيع على الإعلان، بصفته طرفًا ممثلًا عن الدّولة والشرعيّة، وكذلك حضور ممثّل الجيش مقابل ممثّل قوات الدّعم السّريع، وهو ما يُعدّ انتقاصًا من السّيادة وعدم المساواة بين طرفين: أحدهما سلطة شرعيّة، والآخر انقلابي ومتمرّد.
كما أدلى الخبراء بجملة من التّحفظات والانتقادات لــــ"إعلان جدّة". ففي بند جاء فيه الإعلان عمّا يخص "الامتناع" عن التدخّل والرقابة على عمليّات الإغاثة. إذ إنّه يمكن فهم منع الميليشيا المتمرّدة، ولكن ليس مقبولًا أن تتخلّى السّلطة وجيشها عن حقّ الرقابة على هذه العمليّات، وفي مثل هذه الظروف التي قد تستغلها جهات معادية في إدخال سلاح نوعي للمتمرّدين.
كذلك رُصِدَ ما عُدّ أخطاءً جسيمةً يمكن تفسيرها بالانحياز إلى أحد الأطراف؛ مثل: بند جاء في "إعلان جدّة" يدعو إلى "الامتناع عن أي هجوم من المتوقعّ أن يتسبّب بأضرار مدنيّة". وهذا البند ظهر كأنّه صُمّم خصيصًا لتحييد الطيران؛ لأنّ ميليشيات الدّعم السّريع تتحصّن في المناطق المدنيّة، ولا مشكلة لديها في حرب الشّوارع بالأسلحة الخفيفة والمتوسّطة، فنقطة ضعفها هي في تعامل الطيران مع مصادر النيران.
تاليًا؛ سادت قناعة لدى المراقبين، وفاقًا لما نشرته وسائل إعلام عديدة، بأنّ "إعلان جدّة" لن يغيّر شيئًا يذكر في الواقع السّوداني. إذ بإمكان كلّ طرف أن يكمل مهمّته حتى ينال مراده، أو يهلك دونه، فلا توجد فيه أي أسس عمليّة لوقف القتال أو الخروج بتسوية ما، وللميدان الكلمة وفصل الخطاب.
في هذا السّياق؛ يمكن إلقاء الضوء على مكمن الخلل فيما يبدو فشلاً سعوديًا قد يمسّ كفاءة المملكة وسمعة احترافيتها، ثمّ أهليّتها في القيادة. وهو التّسرع في انتزاع القيادة والدّخول في ملفات هي تُعدّ أكبر من حجمها واختصاصاتها ونطاقها الحيوي المباشر. وهنا؛ يمكننا رصد الرغبة الجامحة للقيادة، وكذلك صعوبة العمل في ملفات من دون شراكة مع المعنيّين، أو بالتعدّي على اختصاصات المعنيّين المباشرين بهذه الملفات بمعنى أدق.
في ما يخصّ المسارعة إلى انتزاع القيادة والتشوّق لنيل مكانة عالميّة كبرى، تقول "آنا جاكوبس"، كبيرة المحلّلين في الشّؤون الخليجيّة في مركز أبحاث مجموعة الأزمات الدوليّة ومقرها بروكسل، لـCNN: "هناك سياسة خارجيّة جديدة تجري هنا. إذ تسعى المملكة العربيّة السعوديّة إلى فرض نفسها أكثر فأكثر على المسرح الدّولي، من خلال الوساطة ورفع مكانتها الدبلوماسيّة". وأضافت "جاكوبس" أنّ السّياسة الخارجيّة الجديدة للرياض أكثر استقلاليّة، وتعطي الأولويّة للمصالح السّعوديّة.
أمّا في ما يخصّ الملف السّوداني، فقد توسّطت المملكة العربيّة السّعوديّة، بمساعدة الولايات المتّحدة الأميركيّة، في هدنة قصيرة بين قائد القوات المسلحّة السّودانيّة "البرهان" وقائد قوات الدّعم السّريع "دقلو"، ثمّ تمديد الهدنة لمدة 72 ساعة أخرى، حيث في كلّ مرّة تُخرق الهدنة ثمّ العودة إلى نقطة الصّفر. وهنا، ربما، يتحتّم الاطلاع على إرشادات الأمم المتّحدة بشأن الوساطات، وكيف تكون الوساطة فعّالة، ليتبّين مكمن الخلل في الوساطة السّعوديّة.
إذ طبقًا لتوجيهات الأمم المتّحدة للمتعاطين مع عمليات الوساطة، فإنّها تقول في إرشاداتها إنّ الوساطة الفعّالة تتطلّب وجود بيئة خارجيّة داعمة؛ ومعظم النّزاعات لها بعد إقليمي ودولي مؤثر.. وفي هذا الأمر يحتاج الوسـيط إلى الصمود أمام الضغوط الخارجيّة، وتجنّب المواعيد النهائيّة غير الواقعيّة مع العمل، كذلك الحصول على دعم متنامٍ من الشّركاء لجهود الوساطة.
تضيف الأمم المتّحدة أنّه، وفي بعض الظروف، يمكن أن تكون قدرة الوسـيط على استعمال الحوافز أو الروادع التي تقدّمها الجهات الفاعلة الأخرى مفيدة للتشجيع على التزام الأطراف بعملية السّلام. كما تقول، في فقرة مهمّة من إرشاداتها، إنّه لا تكون النّزاعات كلّها قابلة للوساطة؛ ففي المقام الأوّل يجب أن يحظى الوسيط بالقبول، وثانيًا، يتعَّين أن يكون ذا مصداقيّة، ومدعومًا إلى حدّ كبير؛ وثالثًا، يتعيّن أن يكون هناك توافق عام في الآراء على الصّعيدين الإقليمي والدّولي على دعم عمليّة الوساطة والمفاوضات.
وفاقًا لما سبق؛ نرى أنّ الوساطة السعوديّة ربما يكون مصدر قبولها الوحيد هو سوابق تمويلها لطرفي النّزاع، وهو أمر قائم على مصدر قوّة وإذعان لا يتخطّى أثره قبول الوساطة وحضورها وإجراءاتها الشّكليّة؛ ولكنّه لا يحمل أثرًا فعّالًا في الاستجابة لمسار تفاوضي؛ لأنّه يمكن استبداله، إذ هناك أطراف أخرى يمكن أن تقوم بالتمويل والمساعدات. كما أنّ هناك دول فاعلة أخرى، وبقوّة في السّودان، اُستبعدت، مثل دولة الإمارات العربيّة ووروسيا، كما اُستبعدت الدّول المعنيّة مباشرة بالنّزاع، مثل مصر ودول الجوار الأخرى للسّودان.
تاليًا؛ يُلاحظ عدم وجود توافق على برنامج ومخرج وتصوّر مشترك لجدول أعمال التفاوض ومحاوره، ولا يتوفّر تصوّر استراتيجي لما بعد وقف القتال؛ لذلك يستمر القتال وأطرافه في هذه الحلقة المفرغة.
ختامًا، يمكن القول إنّ النّهج السّعودي القائم على التسرّع والتهميش للآخرين وتخطّي الإمكانات الذاتيّة، والإغفال من دور ذوي الشأن المباشر في هذه الملفات، لن يفيد السّعوديّة؛ بل قد يؤثّر سلبًا على سمعتها، ويلقي بالشّكوك على كفاءتها وأهليّتها في القيادة.