(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
تقف الدّول العربيّة كلّها، ومن ضمنها المملكة العربيّة السّعوديّة، أمام فرصة تاريخيّة نادرة وهديّة، تقدّمها المرحلة الراهنة لشعوبها وحكّامها، بالتراجع الأميركي الواضح، وتراخي قبضته عن عنق العالم العربي، وأزماته الدّوليّة المتعدّدة السّاخنة وعلى رأسها الحرب الروسيّة في أوروبا والصدام مع الصين. وهذه كلّها عوامل قلّلت -أو قتلت- إمكان تدخّله الخشن في شؤون غيره من الدّول، مهما كانت رغبته أو اهتمامه بهذا التدخّل.
يزاد على ذلك، في الحال السّعوديّة، أنّ نظام الحكم جديد تمامًا، فهو وإن كان انتقالًا زمنيًا بين حقبة الأبناء والأحفاد من أسرة الملك المؤسّس، لكنّه نظام جديد. يمكن التفرقة بينه وبين من سبقه إجمالًا، بأنّه جاء إلى الحكم في ظرف محلّي وإقلّيمي ودولي دقيق وصعب. فتاليًا؛ المجتمع يستشعر خطرًا ما، فهو كلّه على استعداد أن يسمع، وقابل أن يستجيب، وهو نظام يمرّ بمرحلة شبه حرّة في تحالفاته الدّولية وعلاقاته بمحيطه، وأعداء الخارج قد اختفوا أو تعجز إمكاناتهم عن التهديد الفعلي، ثم أنّ النظام الجديد شاب، وهو يمتلك نظريًا كفاءة وحيويّة لم تتوفر لمن سبقه، يستطيع أن يجرب وأن يطرق أبوابًا جديدة للتغيير والتحديث.
لكن الأهمّ في حال "ولي العهد"، الشّاب "محمد بن سلمان"، أنّ انتقال الحكم يحدث في وجود ركن شديد يأوي إليه، وهو الملك. وهذا يفرض بالإقناع، أو حتى بالإجبار، نوعًا من الإجماع على وليّ العهد، ويمدّ مظلّة حماية تحقّق للأمير الشّاب الرّضا الواسع. وهذا الرّضا يُترجم إلى رصيد معنوي ووقود لقاطرة حركته وتأثيره، ويضيف نظريًا إلى سلطته القوّة.
التعبير الأهمّ عن هذه الحريّة وهذه القدرة الاستثنائية التي يتمتّع بها ولّي العهد، والثقة التي تحرّك أقدامه، تتمثّل في خطوته الكبرى نحو التنين الآسيوي الصّاعد، أي الصّين، وعقد اتفاقيات تعاون واسعة المدى، والجرأة التي ميّزت موقفه بالموافقة على الوساطة الصينيّة لإغلاق أو تهدئة ملف الصّراع مع طهران، وطي صفحة الحرب في اليمن. وكلّها خطوات كبيرة نحو المستقبل، ونحو تنويع حلفاء المملكة وخياراتها ودعم رصيدها وترميم خطوطها، في سعيها الجاد لاستعادة موقعها في قلب المنطقة العربيّة.
هذا كان أخطر ما تحقّق، في النصف الأول من العام الجاري (2023)، ليس على مستوى المملكة فحسب، لكن على مستوى المنطقة كلّها. ويضاف إليه أو قبله، أن السّعوديّة –حتى اللّحظة- رفضت الهرولة في اتجاه التّطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وخاصمت التقارير الغربيةّ العديدة التي أكدت مرارًا وتكرارًا أنّ السّلام بين الرياض و"تل أبيب" قريب، بعد خطوات الإمارات والبحرين، وهذا كلّه جيد جدًا، ويمثل إيجابيات توجب البناء عليها والتفاؤل بها.
إلا أن ما تعانيه السّعوديّة، في الأصل، ليس الافتقاد إلى خطوة واحدة صحيحة، لكنّه واقع غياب المشروع الوطني الكامل، وتاليًا اختلال جدول أولويّات المملكة دائمًا، والتردد الذي يلازم سياساتها وإستراتيجيّتها بالنسبة إلى المستقبل؛ حيث تظهر في بعض الأحيان وكأنّها تطارد سرابًا ما، لا يراه غيرها ولا يجذب إلا اهتمامها.
فمن جديد، عادت كرة القدم لصدارة وأولويّات الاهتمام في المملكة، ليس عبر مبادرات وتحرّكات تجريها إدارات الأندية الكبرى، ولا بواسطة أموال رعاة أو داعمين؛ بل بخطّة رسميّة واضحة جرى نشرها. وهي منسوبة لولّي العهد "محمد بن سلمان"، لتقطع الشّك باليقين في الخطوات "الكبرى" المنتظرة، والتطوير "المذهل" الذي ينتظر الكرة السّعوديّة، وهي توجهات رسميّة –للأسف- عبرت مرحلة كونها اجتهادات لنفر من النّاس.
من اللأعب "كريستانو رونالدو" إلى "كريم بنزيمة" ثم "نغولو كانتي"، تبدو الملاعب السّعوديّة على موعد مع ضم أساطير لعبة كرة القدم إلى "دوري روشن". وفي المقابل؛ بالطبع مبالغ باهظة، تتراوح بين 136 مليون دولار لـــ"رونالدو" مع فريق "النصر"، إلى 100 مليون دولار لــــ""نغولو كانتي" مع فريق "اتّحاد جدة"، و55 مليون دولار لـــــ"بنزيمة" مع فريق "الاتّحاد" أيضًا. وهي مبالغ باهظة تبلغ أضعاف ما كان يحصل عليه هؤلاء النّجوم في الدوريّات الأوروبيّة، مع اقتراب الجميع من لحظة نهاية المشوار ولقطة الوداع.
ما يجري لا ينتمي إلى الاستثمار الرياضي على الإطلاق، قولًا واحدًا، وبالنّظر إلى الدوريّات الخمس الكبرى وأغنى أندية كرة القدم، فإنّها تدفع المبالغ بسخاء وتجلب اللاّعبين بناء على القيمة التسويقيّة لهؤلاء النّجوم، وتوازن بين الرّواتب وعقود الانتقال. وما تستطيع أن تربحه من عقود الرّعاية والإعلانات والقيمة المضافة للنادي. أما بالنسبة إلينا، ومع عدم امتلاك أي دوري عربي –بالأصل- لمشاهدات من خارج المنطقة، فإن كلّ هذا الإنفاق يشبه ما تفعله رؤوس الأموال العربيّة في أوروبا، تبديد واستنزاف يصل إلى درجة السّفه التي تتندر بها الصحف الرياضيّة، وتجعلنا مدار سخريّة للعالم.
المنطق الوحيد المقبول في تحرّكات الدّول وخطوات حكامها وأصحاب الرأي فيها، يقول إنّها لا تسعى من وراء السّعي والاستثمار سوى إلى ضمان مستقبل أو تغطية مطالب تاريخ، تدفعها في كلّ الأحوال ضرورات مصالح عليا أو أولويّات أمنها القومي. وتستهدف توسيع نفوذها وتعظيم دورها وفاعليّتها. أما دون تلك الخطوط الواضحة، فإن الدّول لا تغامر بهيبتها ولا تملك إضاعة الوقت والجهد والموارد، إذ إنّها في هذا الحال تشبه المتسكع، بلا طريق وقيمًا لا يعنيها، من دون سبب يقنع، ولا هدف يساوي.