(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
تقول قواعد ريادة الأعمال، وقد باتت فصلًا جديدًا كبيرًا ويتسع باضطراد في العالم كلّه، إنّ الأزمات ما هي إلّا فرص للقادرين على اقتناص الفرص، وإنّ اللّحظات الحرجة كما تحمل كلمة النهاية للضعفاء، فإنّها كذلك توفّر للأذكياء حقبة ذهبيّة للنّمو والازدهار. في الحقيقة؛ لا يبحث العالم، في هذا الجزء الأحدث من علوم الإدارة، عن الربح وفقط، لكنّه يبحث أكثر عن النّمو والتوسّع وضمان مكان دائم ضمن الكبار.
حقيقةً؛ إنّ الغرب لم يخلق جديدًا في هذا المجال، فالعديد يمارس مفهوم الإدارة الرشيدة في حياته اليوميّة، بشكل فطري وعادي. وبعض القادة نجحوا في الوصول للخلطة السّحريّة للنجاح من دون معادلات صعبة، ولا أشكال بيانيّة كثيرة وغامضة. لكنّ الجديد هو أنّ هذه القواعد في الإدارة صارت علمًا جديدًا، له قواعد وأصول، ويقوم على شروط أوليّة للنّجاح وتحقيق الأهداف، وحتى إن لم ينجح في الوصول لمبتغاه، فهو سيقلّص الخسائر إلى حدّها الأدنى، ويحصرها، ويحاول تاليًا أن يتجاوزها تجاه فرصة جديدة وطريق مختلف.
الكارثة هي أنّ فلسفة الحكم السّعودي هي الصدفة، وهي إن حققت نجاحًا لحظيًا في مرة واحدة، فإنّها في بقيّة المرّات تؤدّي بنا إلى مهلكة في التّيه أو مذبحة في العراء. تاليًا؛ حتى أمام الفرص المحققة لتحقيق مكاسب هائلة للوطن والمواطن العادي، فإنّ عدم وجود رؤية كاملة للواقع وغياب تقدير الموقف السّليم، تفوّت الفرص التاريخيّة تباعًا من دون أن تجد من يقتنصها، فتورث المملكة كلّها مستقبلًا محملًا بالأعباء من دون أسانيد تطمئن، وسندفع تاليًا أثمان أهوال الأزمات من دون أن نستفيد من موقفنا شيئًا.
بــــ"الصدفة"؛ ذهب ولّي العهد "محمّد بن سلمان" إلى باريس، لأيام طوال، حضر فيها ما أسمته فرنسا "القمّة العالميّة للتمويل"، فهل عرفت القيادة السّعودية ما هي أهداف القمّة، أو ما هو المطلوب منها مقابل صور تُظهر الأمير في صدارة عدد من أهم زعماء العالم، ومن الضيوف أصحاب الوزن الثقيل الرّئيس البرازيلي "لويس إيناسيو لولا دا سيلفا" والمستشار الألماني "أولاف شولتس" ووزيرة الخزانة الأميركيّة "جانيت يلين"، ورئيس وزراء الصين "لي تشيانغ"... بالطبع لم تستهدف السّياسة السّعودية خلق مشهد جديد، لكنّها كانت تسعى فقط خلف بريق صورة وضوء لحظة واحدة، وفقط.
فما الذي يريده الأميركي أصلًا من "قمة التمويل"، والتي حشد فيها كلّ ما أمكنه حشده وتجييشه من جهد وضغط لحضور أكبر عدد ممكن من الشّخصيات، وفوق الجميع "|كريستالينا غورغييفا"، المدير العام لصندوق النقد الدّولي، في وقت يبدو فيه التراجع الأميركي جليًا فاضحًا، ويتأهّب الدولار إلى رحلة خروج كبرى من قائمة الثوابت العالميّة؟!
في السبعينيّات، من القرن الماضي، قامت "واشنطن" بأكبر عملية سطو في التاريخ الإنساني المعروف لنا. فبعد أن وضعت الدولار بصفته عملة وازنة ووحيدة للتبادلات الماليّة العالميّة، بفضل تعهّدها بالتغطية الذهبيّة للعملات التي تطبعها، وإنّها على استعداد قائم ودائم لتقديم أونصة من الذهب مقابل كلّ 35 دولار، فإنّها لجأت في الستينيّات لمواجهة نفقات الحرب الباردة وحربها في فييتنام لعمليّة طباعة هائلة للدولارات. وحين اكتشف العالم ذلك، أو بدأ يكتشف، أجبرت دول أوروبا الغربيّة التابعة لها على إنشاء "مجلس الذهب العالمي" الذي تعهّد باستمرار قاعدة استبدال الدولار بالذهب.
بعد ذلك؛ وقعت المصيبة حين بدأت المخزونات الأوروبيّة من الذهب بالنفاد، إذ فجّر الرئيس الأميركي "ريتشارد نيكسون" المفاجأة المدويّة، في 15 آب/ أغسطس 1971، كانت أنّ الولايات المتّحدة ألغت قاعدة الذهب مقابل الدولار، فيما عرف بـ "صدمة نيكسون"، فأستفاق العالم على "عملية نصب" كبرى مكتملة الأركان. فكان من الطبيعي أن ترتفع أوقية الذهب لتصل إلى 850 دولارًا، في العام 1980، من 35 دولارًا فقط طبقًا للتعهّد الأميركي الأوّل.
اليوم، تريد "واشنطن" إعادة تمثيل المشهد: الحلفاء الأغنياء والقادرون سيدفعون ثمن الوجود الأميركي في العالم، عن طريق دعم ذراعه التمويلي ممثلًا بصندوق النقد الدّولي، والذي بدوره يمنح القروض والمساعدات ضمن ما تريده "واشنطن" وتهواه. ويعني هذا تاليًا؛ إنّ الولايات المتّحدة التي أثقلها عبء التواجد في كلّ مكان في الكوكب ستستمر بفرض هيمنتها، لكنّ المدفوعات ستنتقل إلى غيرها، ببساطة.
فلماذا تذهب السّعودية إلى هذه القمّة؟
هذا هو السّؤال الأهم بعدما جرى في باريس، فإن كان لتقديم أنبوب إمداد للدّول الفقيرة عبر صندوق النقد الدّولي، فإنّ "كريستالينا غورغييفا"، المدير العام لهذا الصندوق، قالت بوضوح في الاجتماع الأوّل لقمة التمويل: "إنّ المواطن الأوروبي حصل، في المتوسط، على نحو 13 ضعف ما حصل عليه المواطن الإفريقي"؛ من التمويل الذي يقدّمه صندوق النقد الأميركي الأسود! وهذه وحدها كافية للابتعاد عن المزيد من الاستنزاف وإهدار الأموال وإتباع الرغبات الأميركيّة.
"واشنطن" تعيد بالضبط قصّة نهب ذهب أوروبا والعالم، ولكن بطريقة أكثر ذكاء هذه المرّة.. إنّ الاقتصاد الأميركي المثقل بالدّيون والتضخّم، والذي لا يستطيع مواجهة تحديّاته، ما يزال يملك قوة ضغط سياسيّة هائلة، يريد بها أن يدفع حلفاءه لتحمّل الجزء الأكبر من إعادة تنشيطه، والقيام بدور الممّول للنظام العالمي الذي يوشك على الغروب، وخصوصًا في القارة السّمراء التي حضر منها عشرون زعيمًا يريدون الاقتراض، ومستعدين لأي شيء مقابل ذلك.