(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
يحوي التّاريخ الإنساني على مُثلٍ سامقة في قدرة القادة الأذكياء الملّمين بالتّاريخ على صناعة الفارق في مسيرة أممهم ومستقبل شعوبهم. فقد كانوا يستفيدون من معارفهم في توجيه بلادهم وإدارتها في أوقات الأزمات الكبرى وعبور المزالق الوعرة. السّياسي البريطاني الدّاهية "ونستون تشرشل" أجْمَلَ واختصرَ الحكمة بجملته الشّهيرة: "كلّما أمعنت النّظر إلى الماضي، تصبح أكثر قدرة على رؤية المستقبل".
بهذا المعنى؛ تصبح عودة الدّول إلى تجاربها وتجارب غيرها ضروريّة، فهي عودة بالفكر والتأمّل إلى قراءة جديدة لأحداث الماضي، تسهم بالتأكيد في فهم تحديّات الحاضر والتّعامل مع مخاوف المستقبل. وهي عودة فيها من الحيويّة والحركة أكثر ممّا هي دعوة للثبات والجمود، والوقوع قلبًا وروحًا في أسر حكايات الماضي وقصص أبطاله.. وهي عودة تدرك باليقين أنّ التجربة الإنسانيّة والمعارف مسيرة للأمام لا تنقطع، لا تخرج من فراغ، ومترابطة لا يفصل بينها العدم.
في هذا الضوء، يبدو النّظر إلى الرغبة السّعودية المحمومة في تحويل دوري كرة القدم إلى أحد أهمّ دوريات العالم جنونًا أو شيء من هذا القبيل. لم يقرأ، ولم يتعلّم أحد من درس قائم وقريب هو الدّوري الصّيني، والذي ذاق التجربة ذاتها بكلّ تكاليفها الفادحة وآثارها المستمرة وفشلها المحتّم. ولم يهتم أحد بأن يعرف عن سرّ تقدّم كرة القدم في أوروبا الغربيّة ودورياتها الخمسة الكبرى، واستمرارها في البقاء على القّمة منذ نشأتها وحتّى اليوم.
العام الحالي يشهد استثمارات جنونيّة تضخّها الأندية الكبرى، في المملكة العربيّة السّعودية، على جلب أهمّ لاعبي العالم، ودخولًا دائمًا في مزاد الصّفقات أو "الميركاتو"- كما يحبّ عشّاق اللّعبة وصف الانتقالات- نتيجة لذلك دفعت الأندية، أو ستدفع، أجورًا فلكيّة للاعبين شبه معتزلين للانتقال إلى الدّوري السّعودي للمحترفين، وميزانيات أكبر للرواتب والمكافآت، بخلاف العمولات وما سيجنيه الوكلاء وغيرهم.
ما هو معلن، حتّى الآن، أنّ ولّي العهد "محمّد بن سلمان" قرّر أنّ الوقت قد حان لتطبيق "رؤية المملكة 2030" في قطاع كرة القدم، وأنّ صندوق الاستثمارات العامّة قد استحوذ على الأندية الأربعة الكبرى في المملكة (الهلال والنصر والاتّحاد والأهلي)، وخلال الموسم الحالي سُيطلق مساران متوازيان: استثمار شركات وهيئات كبرى في الأندية مقابل الملكّية، وطرح بعض الأندية الأخرى للخصخصة. والمستهدف من هذا المشروع كلّه- كما هو معلن ورسمي على لسان الأمير "عبد العزيز بن تركي الفيصل" وزير الرياضة- الوصول بالدّوري السّعودي للمحترفين إلى المرتبة العاشرة عالميًا!
ما هو "مثير"، في هذا الإعلان، أنّ الدّوري السّعودي للمحترفين "الجديد" يستهدف رفع إيرادات رابطة الدّوري السّعودي للمحترفين من 120 مليون دولار حاليًا، إلى 480 مليون دولار!... هذا بالطبع إن نجح المشروع في توفير العائدات واقتناص كلّ فرص التّسويق التي يحلم بها، أو رُتّب على أساسها هذا الارتفاع الجنوني في الإيرادات 400% دفعة واحدة... والأكثر تحديًا أن يستمر على وتيرة المحافظة على زيادة الاستثمارات سنويًا، لمواجهة عبء الصّفقات الجديدة، إذ ما يحكم عالم كرة القدم من تنافسيّة أصبح فيها سعر اللاّعب العادي في أوروبا بعشرات الملايين من الدّولارات.
لنحاول النظر إذًا من زاوية أخرى؛ التّنين الصّيني صاحب أقوى اقتصاد في العالم، طبقًا لطريقة الناتج المحلي الإجمالي مقدرًا بالقوة الشرائية P.P.P بناتج يبلغ 23.194 تريليون دولار، بينما تحتلّ السّعودية المركز الخامس عشر بناتج محلي إجمالي يبلغ 1.796 تريليونًا، وهي طريقة يرى أغلب الاقتصاديين أنّها الأكثر عدالة في تصنيف الدّول.. لماذا هذه المقارنة الاقتصاديّة؟؟
نريد القول إنّ الصّين قد جرّبت منذ سنوات قليلة جدًا أن تتحوّل من قوى اقتصاديّة عظمى إلى قوة كرويّة عظمى، فوضعت خطّة للنهوض بكرة القدم في البلد حتى العام 2050، تتضمن استضافة كأس العالم والمنافسة على الفوز به، وتكوين فريق وطني قوي قادر على مقارعة الأندية الكبار، وتوفير سيولة ماليّة هائلة لاجتذاب أعظم اللاّعبين والمواهب في كرة القدم.
هذه السّياسة الصينيّة أفضت إلى موسم انتقالات قياسي، في 2015/2016، بتكلفة قدرت بـ 451 مليون دولار، واستطاعت أن تغري لاعبين؛ مثل: "أوسكار" و"هالك" و"باولينيو" و"جاكسون مارتينيز" و"كاراسكو" و"إزيكييل لافيتزي" و"تيفيز".. وغيرهم من نجوم اللّعبة وأصحاب الموهبة الفائقة. ومنحت الحكومة الضوء الأخضر للعديد من الشّركات العقاريّة الكبرى توفير مظلّة الرعاية الماليّة للأندية الكبيرة، والكلّ كان في حال ترقّب وانتظار لميلاد عملاق جديد في اللّعبة.. فقد قال المال كلمته الحاسمة، والتّسويق في الدّوري الصّيني يعني استهداف سوق تفوق 1.41 مليار مستهلك، بكلّ ما تحمله من بشائر عائدات لا تقارن بأي دوري آخر في العالم.
النتيجة الأخيرة للمال الوفير وإمكانات التّسويق الواعدة، والدّعم الحكومي السّخي والقدرات المتعاظمة على توفير بنية رياضيّة كاملة الأوصاف، كانت الفشل الكامل والنهائي.. فقّاعة من وهم استمرت عامين إلى ثلاث على الأكثر، ثم بدأت السّكرة تتلاشى وتتضح الحقيقة في أنّ الصين لن تكون مستقرًا لأحلام اللاّعبين، ولن يمتد تأثيرها العالمي كما تفعل كرة القدم الأوروبيّة. وظهر أنّ المشروع كلّه عبارة عن إنفاق عبثي مستمر بلا طائل ومن دون منطق، قبل أن يُلقي تفشي فيروس "كورونا" المروّع بمشهد الختام وإفلاس بعض الشّركات العقاريّة وانسحابها من دعم الأندية التي انهارت بالتتالي كحبات عقد انفرطت منه حبة فتتابعت البقيّة، وبسرعة مذهلة فوق أي تصوّر..!
في مقدور الاقتصاد الصّيني والحكومة الصينيّة بالطبع تحمّل تكلفة سنوات من الإنفاق المالي، في القطاع الرياضي، إن أرادت. فهي تمتلك الثروة والإيرادات ما يكفي ويفيض، لكي تصبح أنديتها الأكثر إنفاقًا وعرضًا للعقود. لكنّ الإدارة الصينيّة الذكيّة أدركت أنّ اللّعبة خاسرة، واستمرارها يمثّل خسارة أكبر، والنّجاح الوحيد يكمن في وقفها عند حدّها الحالي، فبعد جني "إزيكييل لافيتزي"- وهو لاعب باريس سان جيرمان الأسبق- عقدًا هو الأعلى من نادي "هيبي تشاينا فورتشن"، قرّرت الحكومة وضع حدّ أقصى للتعاقدات لوقف هذه المهزلة، وقد كان.
وبدلًا من المقارنة مع تجربة فشلت، رغم امتلاكها عناصر واعدة لا تتوفر للمملكة، فإنّ الأرقام أيضًا يمكن أن تمنحنا ضوءًا جديدًا لفهم مسألة "الدّوريات الخمس الكبرى" (الإنجليزي والإسباني والألماني والإيطالي والفرنسي). فهذه الدّوريات تحقق عائدات قياسيّة من بثّ المباريات، وهذه العائدات بدورها تُقسّم بطريقة معقولة بين أندية الدّوري الممتاز، ما يمنح الجميع الفرصة التنافسيّة والقدرة على الإنفاق بشكل يجعل أقل فريق إنجليزي ينفق ما تنفقه دوريات مجتمعة في موسم الانتقالات. هذا إضافة إلى أنّ النقطة الحاسمة هي أنّ أوروبا مهد تاريخ تلك اللّعبة، ومنظّماتها الحاكمة "الفيفا" التي تُعدّ إمبراطوريّة كبرى بعيدة عن الظلال، فقرارها نافد على الجميع، وما يصدره لا يجرؤ اتّحاد أو دولة على نقضه، وسلطاته غير قابلة للنقاش أو التأجيل.
لقد نشأت الدّوريات الأوروبيّة الكبرى، في وقت أن كانت القارة العجوز تستعمر العالم شرقًا وغربًا، فقامت معها "عقدة ولاء" لدى النخب المتغربنة في كثير من بلاد العالم. كما أنّ استمراريّة تلك الدّوريات، منذ تأسيس الاتحادات وتدشين مسابقاتها، قد منحها شهادة ارتباط نادرة بعشاقها من كلّ أنحاء العالم، على نحو ما نلاحظه في منتج عليه عبارة "صنع في ألمانيا"، فالقدرة الدائمة والاستمرار في البقاء على القمّة قد جعل من بلدانها مستقر أحلام وهوى الفتيان في آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبيّة، وعالم الانتقالات العجيب قد خلق نوعًا من ارتباط آخر بين النادي وجماهيره ومتابعيه. فالأندية الأوروربيّة تستطيع استقطاب أفضل اللاّعبيين والمدّربين، وتضمن تاليًا الحصول على عوائد ضخمة من البطولات المحليّة والقارية، خصوصًا دوري أبطال أوروبا الأشرس والأغلى.. وفي النّهاية؛ النجاح يزيد من الشّعبية والانتشار العالمي، والمشّجع البسيط البعيد عن أوروبا يحلم بنجم يكمل عقد فريقه، والمسوقّون والمديرون يعملون على الصّفقات الضخمة، وفي النهاية يقف المسوّقون عند نهاية الخط يتلقفون الصّفقة الجديدة، ويبنون المشاريع الجديدة حول الدّماء الجديدة، فتتصاعد أرباح الجميع من هذه "الصناعة الكاملة".
إذ تحقق الدّوريات الخمس الكبرى عائدات من المباريات، تصل إلى ذروتها مع الدّوري الإنجليزي الممتاز البريميرليج بـ 6.442 مليار يورو، في موسم 2021/2022، ويليه الدّوري الإسباني الليجا بإيرادت 3.277 مليار يورو، ويركض خلفهما الدّوري الألماني البوندسليجا بإيرادات 3.149 مليارًا، ثم الدّوري الإيطالي 2.5 مليار يورو، وأخيرًا الفرنسي بـ 2.065 مليار يورو.
هذا ما جعل نادي "نوتنغهام فورست"، عقب صعوده إلى "البريميرليج" في الموسم الماضي، ينفق نحو 118.5 مليون يورو كتاسع أكثر الفرق إنفاقًا للأموال في أوروبا. وهو أمر تتحمّل عوائده القياسيّة للأموال في الدّوريات الكبرى، والإنجليزي بالذات، وفوق هذا، هي تتحمّل استمرارها بالوتيرة ذاتها في الإنفاق الدائم، في نموذج لا يمكن منافسته بعشر صفقات أو حتى 100.
مقارنة سريعة بين الأرقام السّعودية "المأمولة" وبين واقع عائدات كرة القدم في العالم، ستمنحك نتيجة واحدة مؤكدة على المشروع الضخم، والذي لا يتجاوز حلمه واقع اعتيادي لنادٍ واحد في القارة العجوز، إنّه يناسب وصف العلاج بالمخدّر المؤقت، لا مشروع تنمية.
إذ إنّ التفكير الذكي لا بدّ أن يأخذ بحسبانه هذه الحقائق كلّها، ليخرج بنتيجة منطقيّة تقول إنّه من الممكن تحويل الدّوري السّعودي، بإمكاناته الحاليّة فقط ومن دون زيادة، إلى أهمّ دوري عربي يستهدف 400 مليون مشاهد من الأشقاء، ويساعد على التقاط المواهب العربيّة والإفريقيّة، من سن صغير، وهي كثيرة ومبدعة في ملاعب أوروبا، وصناعة مسابقة تنافسيّة بلا ظلال فساد أو استغلال... وبعد سنوات قليلة؛ ستصبح معملًا لتفريخ المواهب وإمداد المنتخبات العربيّة بها، وزيادة الارتباط والتأثير السّعودي في محيطها العربي الكبير، خدمة تقدّمها المملكة وتجنيها دورًا وأهميّة في أمتها.