(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
منحت الثورة الصناعية الأولى، والتي تعد اختصارًا لمرحلة استخدمت فيها القوى المحركة الصناعية بـ"البخار" بديلًا للإنسان، ميزة كبرى لإنجلترا مهد هذه الثورة، وهي أنها وهبت للغة الإنجليزية فرصة اكتشاف ووضع تعريفات للعديد من المنجزات الإنسانية، خصوصًا في المجال العلمي، وأصبحت بالتالي التعبيرات الاصطلاحية الإنجليزية صاحبة سبق واضح ودلالات قاطعة، منها على سبيل المثال الجملة الاستعارية "إعادة اختراع العجلة" أو "Reinventing the wheel".
هذا التعبير الاصطلاحي يشير ببساطة إلى فكرة هائلة، وهي أن النموذج الأولي للعجلة بالغ الكفاءة ولا يشمل أية عيوب تشغيلية، وبالتالي فإن التفكير في إعادة إنتاجه أو اختراع بديل هو نوع من مضيعة الجهد والوقت واستنزاف للموارد بغير طائل، هذا التعبير كان مجرد تعريف –أو اكتشاف- لحقيقة واقعة تعامل معها حتى الإنسان البدائي، بالتجربة البسيطة والاحتكاك مع عالمه، إذ أن الاشكال الدائرية هي الأسهل تحريكًا على سطح الأرض، وقديمًا جدًا قبل الثورة الصناعية بآلاف السنين استخدم المصري القديم الفكرة في تحريك الأحجار الضخمة بوضعها على أخشاب أسطوانية، وبنى أحد عجائب العالم السبع، وفقًا لأشهر النظريات المنطقية في بناء الأهرامات الضخمة، مرورًا ببناء العجلات الدوارة والسيارات وعجلات الطائرات في عصرنا الحالي.
المملكة العربية السعودية، اليوم، أحوج ما تكون إلى إعادة قراءة بديهيات الفكر والعمل البشري، ومحاولة تغيير مسيرتها الحالية تجنبًا لمصير أسود ينتظر كل من يضيع موارده وإمكانياته ويبدد فرص بناء أساس صحيح للبلد ومستقبلها، وهو مصير حتمي في حال سيطرة الغباء الكامل والغباء غير المحدود على إدارة الدولة، وانخراط المنافقين وحملة الدفوف في حملات تجميل منهجية وساقطة للنظام، أيًا كان ما يفعله.
الأندية السعودية لكرة القدم بدأت منذ مدة في مرحلة جديدة من الجنون الجماعي، سعيًا لصناعة أسطورتها الخاصة في الفشل والضياع، بمحاولات محمومة جرت وتجري لاستقدام أبرز لاعبي الكرة في العالم، لدوري لا يتابعه سوى 30 مليون إنسان، وإمكانات تسويقه أو تصديره تكاد تكون منعدمة مقارنة بغيرها من الدوريات الأوروبية الكبرى، القائمة منذ عقود طويلة على منظومة متشابكة ومعقدة من المصالح والتمويلات والإعلان.
الجديد في القصة السعودية هو محاولة جلب كيليان مبابي، اللاعب الفرنسي صاحب الأصول الإفريقية، وأحد أبرز نجوم اللعبة في الوقت الحالي، مع تبقي موسم وحيد على تعاقده مع نادي باريس سان جيرمان، وعدم رغبة اللاعب في تمديد تعاقده، الرغبة اقترنت بعرض هو الأضخم في تاريخ كرة القدم من إدارة الهلال بدفع 332 مليون دولار لنادي العاصمة الفرنسية، وفقًا لمجلة "فوربس" الاقتصادية المرموقة، لضم اللاعب الذي سيصبح حرًا في نهاية الموسم ويمكنه التوقيع في شهر كانون الثاني/ يناير المقبل لأي نادِ مجانًا!
ما هو مؤلم في القصة السعودية لجلب اللاعب إلى الرياض، ليس في كون المقابل المادي مذهل، ولم يدفع سابقًا للاعب كرة قدم، بل في أن عقد اللاعب الحالي مع ناديه الفرنسي يضعه على قائمة أعلى الرياضيين أجرًا على الإطلاق، حيث يتحصل على 125 مليون يورو في الموسم من الرواتب والمكافآت،
وفقًا لأرقام "سبورتيكو" المتخصص في اقتصاديات الرياضة، وهو الرقم الذي سيزيده الهلال بالقطع، لضمان قبول اللاعب لعقد ينقله من أوروبا، مركز اللعبة ومصدر أضوائها، إلى الشرق الأوسط، أي أن عقد لاعب كرة قدم مع نادٍ سعودي يمكن أن يتجاوز ببساطة رقم المليار دولار.
والأسخف في القصة كلها هو أن اليد السعودية الممدودة بهذا القدر من الأموال سترد في أغلب الأحوال خائبة في سعيها، لتصبح ما ستجنيه السعودية –فعلًا- من السعي للفوز باللاعب هو أنها تتحول إلى أضحوكة ومضغة في أفواه العالم وإعلامه.
اللاعب الفرنسي يريد أن يذهب إلى ريال مدريد، أغنى وأشهر أندية العالم، وأكثرها تاريخًا وألقابًا وتميزًا، للحصول على فرصة بداية عصر ما بعد رونالدو وميسي، وضمان الفوز بالبطولات والجوائز، دوري أبطال أوروبا وأفضل لاعب في العالم، لذا فقد رفض عروض التجديد الخيالية المقدمة له من إدارة باريس، وقرر أن الموسم الحالي له هو الأخير في فرنسا، بل وشن حملة إعلامية على إدارته وناديه لوقف الضغوط التي تعرض لها للبقاء.
إدارة "ريال مدريد" الذكية والغنية لم تتفاوض من الأصل مع باريس سان جيرمان للحصول على السنة المتبقية في عقد اللاعب، الذي يرغب مسؤولو الملكي بشدة في إحضاره للعاصمة الإسبانية، هم يعرفون قدر اللاعب ويثقون في إمكانياته وصغر سنه وموهبته وقدراته على صنع الفارق لفريقه، لكنهم ببساطة أشطر من أن يهرولون إلى صفقة مكلفة اليوم، ستكون متاحة مجانًا بعد 5 شهور، رغم أن النادي الإسباني يستطيع الدفع وتغطية صفقة كبرى من خلال عقود رعايته وقدرات إدارته الفذة على التسويق الرياضي والاستفادة من اللاعب لأقصى درجة ممكنة.
ما الذي سيقدمه الحكم السعودي لشبابه ومواطنيه من هذا اللهاث وراء لاعب كرة، هل سيظل مقنعًا للناس أن التفوق والتفاني والعمل هم أبرز المؤهلات للنجاح في الحياة، أم سيقدم لهم أسوأ مثل ممكن للسعي وراء المال مهما كان الطريق ومهما كانت الوسيلة، أسئلة كلها لا تحتاج لإجابات قدر ما تحتاج لفرملة توقف هذا العبث.