(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
تحتاج أي دولة، في أي وقت وفي كلّ وقت، إلى نوع من الإنجاز المحسوس القادر على تجييش الوجدان والوعي الجمعي للناس، وتصدير شعور بالثقة- وربما حتى التفوّق- لصناعة لحظات وطنيّة فارقة، تستطيع تثبيت النظام وشرعنة سلطة الحكم. وحتى إن لم يكن ذلك حقيقيًا؛ فإنّ الحكومات، في بعض الأحيان، تحاول خلق هذا الحدث ولو من العدم، واستغلاله تاليًا. أمّا في أوقات الأزمة وأزمنة الاضمحلال والانحلال؛ فإنّها تلجأ للتلاعب بالمشاعر ودغدغة العواطف، فيما يشبه حال الدّجل، بدخانه وأوهامه.
شرعيّة الإنجاز بالنسبة إلى أي نظام حكم هي الأوكسجين اللازم للحياة، وهي تعبّر بحقّ عن قدرات النظام على مواجهة المشاكل وحلّها. وتقيس، بشكل مباشر وصادق، مدى كفاءة النظام ونجاحه. وسواء كان نظام الحكم سلطويًا أم منتخبًا، فإنّ شرعيّة الإنجاز هي المطلوب الأول داخليًا، وتحقيق الأهداف التي تمنح نظام الحكم عنوان "الثقة والقدرة"، وتوضع على قدم المساواة مع الشرعيّة السّياسيّة والدينيّة. وهو مقابل مرضٍ للبعض، في ظلّ الحكم الذي يعزّز شخصانيّة السّلطة واحتكارها في رجل واحد، حيث تدور حوله السّلطات والمسؤوليات كلّها.
جاءت انتصارات الوهم وإنجازات الظلال، هذه المرة، في بطولة لكرة القدم للأندية العربيّة -"بطولة الملك سلمان للأندية"- والتي استطاعت بكثير من الأموال والمكآفات ترتيب مشاركة بعض أقوى الفرق العربيّة، من مصر وتونس والمغرب والعراق وقطر، وظهرت فيها الفرق السّعوديّة التي ضمّت أفضل لاعبي العالم بصورة مبهرة. فاستطاعت كلّها تجاوز دور المجموعات، والتأهل إلى دور الثمانية، وهي: فرق الاتّحاد والهلال والنصر والشباب، بصورة يمكنها أن تمثل انتصارًا وتفوقًا سعوديًا في هذا المجال على مستوى العالم العربي، والذي بات شغل "محمّد بن سلمان" الشاغل وأولويته البارزة.
على الجانب الآخر من العالم؛ هناك حقائق جديدة طرأت على سطح الأحداث، وتقدم نفسها لشعبها ولنا على أنّها بوابة إلى الفعل الصحيح في عالم اليوم المشتعل، أو القريب جدًا من الاشتعال.. وهي دولة النيجر الصغيرة، إحدى أفقر دول قارة أفريقيا المهمشة، والتي نالت استقلالها "الشكلي" عن فرنسا في العام 1960. وهي مع ذلك ما تزال ترزح تحت وطأة فقر شديد وتحكّم كامل بالمصير من المستعمر السّابق، وهي قصّة مكرّرة في هذه القارة المنكوبة، عن تفنن المستعمر الأبيض في مصّ الدم والعرق ونشر البؤس والخراب أينما حلّ.
النيجر تهمّ كلّ عربي وكلّ مسلم، كونها تُعدّ بوابة رئيسة مع "مالي:، بين العالم العربي وأفريقيا، وهي دولة يدين الغالبية السّاحقة من سكانها بالإسلام. ورغم أنّها واحدة من الدّول التي وهبتها الطبيعة ثروات لا حصر لها، من المعادن خصوصًا الذهب واليورانيوم، وفيها من الإمكانات ما يضمن لها ولشعبها موارد هائلة وثروات لا تنضب، إلا أنّ هذه الدّولة تُحلب مثل البقرة لصالح فرنسا أولًا بأوّل، وإن جفّ الضرع، فالفرنسي جاهز لمصّ الدم والعظام.
دولة النيجر، الفقيرة جدًا- كما توصف- تحتلّ المرتبة الرابعة بين مصدري اليورانيوم في العالم، وقارة أوروبا تعتمد في وارداتها على 25% من يورانيوم النيجر، فرنسا وحدها تستورد 35% من احتياجاتها من هذا العنصر الحيوي من النيجر، لاستخدامه في المفاعلات النوويّة. وباريس التي توصف بمدينة الجن والملائكة تضيء بموارد أفريقيا وثرواتها، وفي النهاية لا تدفع شيئًا على الإطلاق، حيث تعمل شركاتها هناك بشكل احتكارات ضخمة، تُعفى من الرسوم والضرائب، ولا تترك في المدن من بصمة سوى بقايا المواد المشّعة تفتك بمزيد من الضحايا الأبرياء.
الأكثر إثارة في أحداث النيجر، إنّه بالرغم من كونها تجري في منطقة يسيطر عليها عملاء فرنسا، أو الغرب عمومًا، وتقول فيه دول تحالف "إيكواس" في غرب أفريقيا إنّها مستعدّة للتدخّل العسكري لإعادة ما تسمّيه "الشرعية" إلى الحكم، فإنّ النظام الجديد استطاع، بمهارة فائقة وقدرة مناورة عالية، استغلال الوضع العام العالمي في اجتذاب روسيا والصين إلى قلب معركة بلاده المصيريّة مع الغرب. هو بذلك آمن لنفسه تحالفًا إقليميًا مع مالي وبوركينا فاسو، ما يجعل مهمّة التدخّل العسكري –إن جرت- شديدة الوطأة فادحة التكاليف بالنسبة إلى ذيول فرنسا في القارة السّمراء.
وفي دولة أخرى مجاورة، فيها الظروف والأزمة ذاتها، في بوركينا فاسو، خرج علينا شاب(34 عامًا) هو "إبراهيم تراوري" ليقود إنقلابًا عسكريًا ضد حكومة الرئيس "محمد بازوم"، ويوجّه خطابًا مثيرًا وعظيمًا إلى شعبه. إذ قال فيه: "يطلب منّي جيلي أن أقول لكم، إنّه بسبب الفقر يضطر لعبور المحيط قاصدًا أوروبا، ثم يموت في البحر، لكن ذلك سينتهي قريبًا، في المرّات القادمة لن يركبوا البحار، إنما سيتجهّون نحو قصور الرؤساء يطلبون قوت يومهم الزهيد".
في الواقع؛ إنّ المشاهد التي تجري اليوم في النيجر وبوركينا فاسو ومالي هي استكمال لنهج أفريقي جديد بكسر واقع التبعية لــــ"فرنسا"، بعد انتفاضات مماثلة في كل من أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو، إلى اليوم. ورغم الاستقلال الشكلي لأغلب المستعمرات الفرنسيّة، في الستينيّات من القرن الماضي، ما تزال الدّول الأفريقيّة تضخ نصف احتياطياتها النقديّة للبنك المركزي الفرنسي غطاءً لإصدار عملاتها، وهو أمر يعني أنّ الاستعمار لم يرحل، وإن رحل جيشه، فالنظام يضمن بقاء التبعيّة واستمرارها.
هذه الدول الفقيرة الجائعة تقدّم لنا أفضل الإجابات على سؤال واقعنا اليوم، ما العمل؟؟!
العمل هو استغلال حال انقلاب الموازين العالميّة، وبدء تدشين طريق جديد يفلت رقابنا من التبعيّة للغرب. ففي أفريقيا؛ تبلغ الاستثمارات الصينية 230 مليار دولار، وشركاتها تتمدد جغرافيا واقتصاديًا في كلّ دول القارة تقريبًا، وتمنح شعوبهم الأمل في استرداد ثرواتهم وتأطير نظام عالمي جديد قائم على التعاون لا النهب.. وروسيا كذلك موجودة، واليوم عرفت الشركات البرازيليّة والهنديّة الطريق، وهذا كلّه يقطع الطريق على فرنسا وعلى الولايات المتّحدة الأميركيّة، ويخصم من إمكانات استمرار استنزافهم ونهبهم للشعوب، والأمر أصبح لا يحتاج إلا إلى قيادة كفؤة وذكيّة، تعرف أين تكمن مصالح شعبها في عالم اليوم.