(مبارك الفقيه \ راصد الخليج)
احتشد قادة العرب والمسلمين، في "قمّة اسثنائية"، في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني، وتقاطر سبعة وخمسون من الملوك والأمراء والسّلاطين والرؤساء في حدث نادر قلّ حدوثه، يحدوهم الشّعور بالغضب والحنق، واستشعارًا لأهميّة "توحيد الجهود والخروج بموقف جماعيّ موحّد يُعبّر عن الإرادة العربيّة - الإسلاميّة المشتركة بشأن ما تشهده غزّة والأراضي الفلسطينيّة من تطوّرات خطيرة وغير مسبوقة، تستوجب وَحدة الصفّ العربيّ والإسلاميّ في مواجهتها واحتواء تداعياتها"، وفقًا لما أورده بيان لوزارة الخارجيّة السعودية..
لعلّ قادة "إسرائيل" ودول العالم في الشّرق والغرب، وخصوصًا بريطانيا وفرنسا والولايات المتّحدة، ترقّبوا وهم يحبسون الأنفاس ما سيصدر عن هذه القمّة، ومن شأنه قلب الأوضاع كلّها، ويخلط الأوراق كلّها، ويأخذ الصراع إلى مسارات مختلفة.
أوّل إرهاصات القمّة جاءت، في القاعة الطويلة – العريضة، حيث توزّع الزعماء في أماكن متباعدة، لدرجة أنّ كل واحد منهم لم يكن قادرًا على تبيّن ملامح الآخر نظرًا إلى المسافة التي تفصل بينهم.. كان يكفي أن ننظر إلى هذا المكان المحدّد الزوايا لنعلم بأنّ لا أمل يُرجى من جماعة تتمترس خلف مربعات، وتناقش قضيّة لم تعد محور جمع بقدر ما أصبحت محور خلاف.. وكان يكفي أنّ هذه القمّة الاستثنائية الطارئة جاءت بعد 35 يومًا على بدء المواجهة في قطاع غزة، بين حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى وكيان الاحتلال، والتي ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب إبادة شاملة ضد الشّعب الفلسطيني تنفذها "إسرائيل" بقيادة أمريكيّة وتأييد غير محدود من أنظمة أوروبا والغرب، لنعلم بأنّ الأوان قد فات على أي فعل..
لقد جاءت القمّة لتعلن موقفًا موحّدًا لم يخرج عن الإطار اللّفظي، فكانت قمّة القرارات إدانة ودعوة ومناشدة، والتلطّي خلف مجتمع دولي، سبق أن أعلن تشريعه لمنظومة القتل والإبادة، والتي حصدت عشرات الآلاف من النساء والأطفال، وحوّلت جلّ قطاع غزة إلى ركام.
بعد خمسة أسابيع من الجنون الإجرامي الإسرائيلي؛ خرجت قمّة الرياض الاستثنائية الطارئة بمجموعة من المواقف "الصارمة"، ولكنها ركنت إلى عجزها عن تحويل بعض قراراتها اللفظيّة إلى برامج عمليّة، تكسر في الحدّ الأدنى شيئًا من الحصار التمويني والطبي الذي تفرضه "إسرائيل" على قطاع غزة، حيث لا تجرؤ دولة عربية كبرى- مثل مصر- في أن تخالف الأوامر الإسرائيليّة، فتنظّم دخول ما تيسّر من شاحنات الأدوية والمعونات الغذائية عبر معبر رفح لإنقاذ الآلاف من الجرحى الذين يموتون يوميًا بسبب الفقدان الشبه كامل لمقوّمات العلاج البسيط، في ما تبقّى من مستشفيات عاملة في قطاع غزة.
عبّرت قمة الرياض قولًا وفعلًا عن الإرادة العربيّة – الإسلاميّة تجاه ما يحصل من جرائم إسرائيليّة في فلسطين، وخرج البيان الختامي ليؤكد حقيقة العجز. وهذا هو الهدف الحقيقي من انعقاد القمّة، وهذا هو أقصى وأقسى ما يمكن اتخاذه من إجراءات لنصرة الشعب الفلسطيني..
فهل المطلوب تجنيد الجيوش العربيّة والإسلاميّة وأسلحتها وعتادها الأمريكي، والزحف نحو فلسطين لطرد "إسرائيل" وتحرير المسجد الأقصى؟ وهل تستحق فلسطين والأقصى مواجهة احتمالات اندلاع حرب عالمية ثالثة، وأن تخاطر أنظمة العرب والتضحية بإنجازاتها السياسيّة والإقتصاديّة التي تعب الزعماء في بنائها عشرات السنوات؟
ألا تعلم الشعوب أنّ أي قرار عربي – إسلامي بالمواجهة ضد "إسرائيل" يعني عداءً للأصدقاء من القوى الكبرى، ولا سيما أمريكا، ما يغضبها ويستدرجها لعقاب الدّول العربيّة والإسلاميّة، مع ما قد يؤدي ذلك من مخاطر وجوديّة على هذه الدول؟ ولماذا لا يقبل الفلسطينيون بالسّلام الذي اتفقت عليه قمّة بيروت، في العام 2002، فيكون لهم دولة مجتزأة بنصف عاصمة، ويسلّمون أسلحتهم لـــــ"إسرائيل"، ويعيشون تحت مظلّة عربيّة ودوليّة، ويمارسون حياتهم لاجئين بسلام وهدوء، كما يعيش شعوب الدّول في الخليج من دون أي شيء يعكّر صفو معيشتهم؟
قيل إنّ "غولدا مائير" لم تنم في الليلة التي تلت حادثة إحراق المسجد الأقصى، في 21 أغسطس/أب 1969 على يد متطّرف أوسترالي صهيوني.. يومذاك هبّت الشّعوب العربيّة والإسلاميّة غضبًا لانتهاك حرمة أولى القبلتين وثالث الحرمين، واجتمع زعماء العرب في قمّة طارئة تحت ضغط المسيرات والمظاهرات الشعبيّة التي غصّت بها العواصم، فتمخّض "الغضب العربي والإسلامي" عن قرار صارم بالإدانة الشّديدة، وعن تأسيس "منظمة المؤتمر الإسلامي"، وعاد كلّ زعيم إلى دياره ليرتاح من تعب اتخاذ الموقف.. آنذاك ضحكت "غولدا مائير" مطوّلًا، وتنفّست الصّعداء وهي ترتشف قهوتها الباردة بعد ليل طويل من الترقّب، هزّت برأسها ساخرة وقالت: "كنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجًا من كلّ مكان، ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي علمت أن باستطاعتنا أن نفعل أي شيء نريده".
اليوم بعد قمّة الرياض "العنيفة"، والتي رفعت سقف مواقفها فأدانت "إسرائيل" وطلبت وقف النار وإعانة الشعب الفلسطيني، استفاق "بنيامين نتنياهو" وضحك هو الآخر، ولكنّه هذه المرّة طالب زعماء الدول العربيّة أن يصمتوا وينضّموا إلى "إسرائيل" في حربها ضد "الإرهاب" الفلسطيني الذي تجسّده حماس، لا بل إنّ بعض المحلّلين الإسرائيليين لم يخجل بالإدّعاء أنّ السعوديّة :"أصرّت على أن تعقد القمّة في الرياض كي تتحكّم في بيانها الختامي بما يخدم إسرائيل، فليس هناك أي قرارات عمليّة فعليّة ضدنا"!! ..
إنّه كلام خطير يعكس المدى الذي وصلت إليه "إسرائيل من استخفافها بأنظمة العرب والمسلمين، والأخطر من ذلك هو دعوة "نتنياهو" هذه الأنظمة إلى توفير الغطاء للمحور الأمريكي – الإسرائيلي وشرعنة الجرائم الشنيعة التي يرتكبها بحقّ الشّعب الفسلطيني، وهذا يدلّ على عمق الإنقلاب الذي حصل في خارطة ما كان يُسمّى "الصراع العربي – الصّهيوني"، بحسب موروث الأدبيات السياسيّة التي كان يحفل بها الصوت العربي والإسلامي.
في أحد الأيام، من العام 2017، وقف نتنياهو أمام الكنيست الإسرائيلي ليدافع عن سياسة الانفتاح التي كان ينتهجها، والتي قادت فيما بعد إلى توقيع اتفاقات التطبيع مع بعض الدول العربيّة، وقال: "إنّ الزعماء العرب ليسوا عائقًا أمام توسيع علاقات إسرائيل مع جيرانها من الدول العربية".. ويبدو واضحًا أنّ الرجل كان يعني ما يقول، وهو الآن – حيث يعيش و"إسرائيل" في أعمق المآزق السياسيّة والعسكريّة منذ إنشائها – يستدرج طوق نجاة، أو في الحدّ الأدنى اطمأن إلى نجاحه في تحييد جبهة طويلة عريضة، ويراهن على أنّ هذه الجبهة قد أصبحت في موقع الحلف، بدل أن تكون في موقع الخصومة والعداوة.