(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
يمكن للإنسان أن يقول، بكثير من الاطمئنان والثقة، لصدق القول ومناسبته، إنّ سقوط العالم العربي أمام كيان الاحتلال لم يحدث في ساحات المعارك، مهما بلغ دوّي الهزائم أو عمق الخسائر والجراح، وإنّ المقاومة الفلسطينيّة الأسطوريّة في غزة الصامدة اليوم، لن تهزم بإذن الله، ولن تخضع أمام إرادة السّلاح الصهيوني، ولو كان وراءه أميركا والغرب كلّه..
إنّ السقوط العربي يمكن تفسيره بكلمة واحدة: "قرار"، خيار خاطئ في الوقت الخاطئ وفي الظرف الخاطئ، والعالم العربي حين يقرّر المواجهة، يستسهل الهزيمة التي تبدو في هذا الوقت ذاتيّة وحتميّة.
يظهر لأي متابع للأحداث العربيّة، خلال نشأة كيان العدو من العدم إلى أرض فلسطين وبعدها، أن أعظم انتصار حققه هذا الكيان وشكّل فارقًا مروّعًا بين عصور وأزمنة مختلفة كان "حرب الخليج الثانية" أو حرب تحرير الكويت. إذ كانت قرارًأ انتحاريًأ جماعيًا عربيًا، قبلته الأنظمة ومرّرته بينها، ثم فرضته على شعوبها فرضًا، بكلّ وسائل الفرض الممكنة، وكانت المنطقة بعدها مختلفة أشدّ التغيير عما كان قبلها.
بقبول الدّول العربية، بأنظمتها الملكية والجمهورية، وباختلاف أهوائها وإدعاءاتها، الدخول إلى حظيرة الرعاية الأميركية، واستقبال جيوش الفتح القادمة من وراء الأطلسي. فقد كانت في الحقيقة تمنح واشنطن دور "الرعاية"، بما تفرضه هذه الحقيقة من إعلان رسمي بالعجز، وقبول بـ"زمن الحماية الأميركي"، مع ما استتبعه من "فرض" للرؤية الأميركية على قصور الحكم والتحكّم الكامل في قراراتها، وأولها بالطبع أنّ كيان الاحتلال لم يعد عدوًا لأحد!
عقب انخراط العالم العربي، في "النظام العالمي الجديد"، في مطلع التسعينيّات من القرن الماضي، انهار كلّ شيء وضاع، صحيح أنّ بعض الأنظمة سارت إليه طامعة أو طامحة في "معادلات جديدة" أو ما ظنت أنه ترتيبًا جديدًا يمنحها جزءًا من كعكة العصر الجديد، ويعترف بحقوقها في توزيع المصالح وترتيبات الأمن، فإذا بها عقب نهاية الحرب فوجئت بالأميركي والصهيوني قد اقتسما الغنائم كلّها، ولم يتركا لهم حتى الفتات. أما البقية، وخصوصًا في الخليج، فقد مضت إلى هذا العصر مختارة، بفعل صدمة غزو الكويت، وتأكدها من أن "عروشها" لن يحميها سوى الأميركي.
اليوم بالذات تقف السعودية على أعتاب اختبار مشابه لما وقع في الماضي، وإجابتها ستحدّد المستقبل القادم، أكبر دولة عربية وإسلامية تقف اليوم "شبه صامتة" أمام إبادة تستهدف البشر والحجر في أرض عربية مجاورة، تجمعنا معها انتماء الدين ومصلحة الأمن والمستقبل. وهذه المعركة بالقطع ستمرّ، كما مرّ غيرها، لن يركع الفلسطيني ولن ينتصر الصهيوني، لكنها بالتأكيد ستحدّد "دور السعودية الجديدة" في المنطقة والعالمين العربي والإسلامي.
ليس جديدًا أن فصائل المقاومة في فلسطين، بعد مرور 43 يومًا كاملة من حرب جنونية يخوضها العدو بأفتك ما في ترسانة البشر من سلاح، وفوقه ومعه التأييد الأعمى والكامل من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، فإنّ هذه الفصائل مستمرة في إمطار "كلّ" مدن فلسطين المحتلة بوابل لا يتوقف من الصورايخ. وهي مستمرة أيضًا في صدّ الزحف الصهيوني المدرّع على المدينة –الكبيرة عزة مع صغر مساحتها- ومع امتلاك الكيان لسيطرة جوية كاملة، لا تحلم جيوش العرب مجتمعة أن تضاهيها أو تقف أمامها، لكنّ غزة فعلت!
المدينة الفلسطينية التي يحاصرها العدو والشقيق، وخذلها القريب والبعيد، ما تزال تقدم أسمى آيات الإيمان ومعانيه، وستظل رأسها شامخة مرفوعة، مهما انحنت رؤوس وأكتاف من حولها، وستبقى أقدامها راسخة على الأرض، مقبلة غير مدبرة، مهما ارتجف المنافقون وهرب الخونة والمجرمون من حولها. هذا هو درس التاريخ الإنساني العظيم والأوّل، ليس مهزومًا من يقاوم، والدماء في حياة الأمم والشعوب قادرة على أن تختصر المسافة بين الحلم العظيم والواقع بتعاسته وفقره وإحباطه..
هذا ليس تحليلًا، ولا هو رأي، بل هو إعادة لقراءة أحد العلماء العرب الأفذاذ، وأحدى الشخصيات الأسطورية التي نظرّت لواقع المنطقة وبلدها وجغرافيتها السياسية، المصري الراحل د. جمال حمدان، وفي كتابه عن العالمين العربي والإسلامي، جزم الرجل مبكرًا جدًا بالكثير من "تنبؤات المستقبل"، والتي صارت -اليوم- حاضرًا وحقائق معاشة ويومية.
في حديثه عن "مصر" ومعاركها مع الكيان المصطنع، قطع الراحل بأن: "مستقبل مصر أسود، والخيار أمام البلاد لم يعد بين السيء والاسوأ، بل بين الاسوأ والأكثر سوءًا.. مصر الآن خشبة محنطة، مومياء سياسية، كمومياواتها الفرعونية القديمة، ولا عزاء للخونة"، وعن كيف حدث هذا السقوط المروّع للدولة العربية الكبيرة –سابقًا- فقد فسره بأحداث صنعت الطريق إليه، وفتحت بوابات الجحيم المزينة بالزيف أمام الشعب المصري، ويقول: "بداية نهاية مصر عربيًا كانت كامب ديفيد، ونهاية النهاية كانت حرب العراق 1991".