(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
يقدّم لنا التراث العربي الغني، دائمًا، ما يكون مفتاحًا ذكيًا لفهم الواقع مهما كان السياق ملغّزًا، ومهما اشتبهت الأقوال والأفعال. فقد تركت لنا الحكمة العربية مبدأ أو فكرة "الفراسة" وهو لغويًا: علم ترى فيه أخلاق الإنسان، وتتعرّف منه إلى حقيقته من هيئته ومزاجه وكلمته، ومراده هو: الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن، وهو يصلح ويكفي لصناعة وعي سليم، واتخاذ موقف بناء على فهم عقلاني.
في حال المملكة السعوديّة، نحن لا نحتاج كثيرًا لبذل الجهد أو إعمال الفكر في ما خفي من مواقف، خصوصًا النظرة الرسميّة السعوديّة لما حدث في معركة "طوفان الأقصى". فوزير الخارجية فيصل بن فرحان، ومنذ اليوم الأول للقتال بين شعبنا الفلسطيني البطل وكيان العدو، يدعو إلى تجنّب قتل "المدنيين" وإلى هدنة "إنسانية"، وكلماته تلك هي ملخّص كلمة "الحياد" الذي هو بمعنى آخر خيانة الدّين والأمّة والقضية، فكيف يحتاج دمًا طاهرًا بهذا الوضوح إلى سياسة كي نفهمه!؟
الحقيقة الوحيدة هي أنّ كيان العدو، مدعومًا بالولايات المتحدة والغرب المجرم، قد عاث في الأرض العربية فسادًا وتقتيلًا، 50 نهارًا من القصف، وباستخدام ذخائر ومتفجرات وقنابل بما يتجاوز أي معركة أخرى في التاريخ، نحو 40 ألف طن، على مساحة ضيقة من الأرض لا تتجاوز 300 كيلو متر، ينحشر داخلها 2.3 ملايين إنسان، وعدد تقريبي للضحايا يقترب من 15 ألف شهيد، وفقًا للمعلن حتى اللحظة، لكن هذه الدماء كلّها لم تكن كافية ليفكر الأمير "محمّد بن سلمان" ولي العهد في موقفه من التطبيع مع العدو، ولم تحقق هدفها في إيقاظ الجثة التي تعفنت وهي بعد حيّة.
الأمة العربية كانت على موعد مع انتصار مؤكد وواضح وقاطع، في يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، نصر فلسطيني بالدرجة الأولى، مع الوصول إلى حال من "العجز" الكامل من الكيان عن الحسم العسكري، أمام مقاتل عربي صلب وصابر، يقدم من جديد أعظم دروس الفداء والتضحية، ويكتب عناوين لملحمة عظيمة هي: "الحمد لله الذي جعل الصبر ثمنًا للنصر"، و"ما تزال راياتنا سوداء ما ابيضّت".
لكن، وبعد وقف النار المؤقت، ما الذي خسرته المملكة فعلًا؟
قادت قطر، بالدرجة الأولى ومصر بعدها، التعبير عن الموقف الأميركي العاجز، وهو مأزق الحرب وأزمة الكيان الصهيوني أمام الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في غزة، وتوصلت إلى هدنة إنسانية قد تمتد لمدة، وتصدّرت تاليًا قيادة جهود الحلّ في المنطقة تحت توجيه واشنطن وبقيادتها، وهذا الموقف بالذات هو الخطوة الأولى لفهم حجم وعمق الخسارة السعوديّة.
عصر الأوهام أو مقولة الجيش الذي لا يقهر مضى وفات، وأثبتت فصائل غزة الصغيرة حجما الكبيرة فعلًا وموقفًا- أنها صاحبة اليد العليا في ميدان القتال، ولآخر يوم في "طوفان الأقصى" كانت تضرب بصواريخها المباركة "تل أبيب"، وحتى آخر دقيقة كانت تتصدّى ببطولة وشجاعة نادرة التوغل المدرّع لجيش العدو، وحتى آخر لحظة، كانت تلحق به الخسائر وتوقع نخبته في الكمائن، لتحصد رؤوسهم حصدًا.
لم يتغير الموقف الرسمي السعودي ممّا حدث، ومن التغيير الهائل الذي طرأ على المنطقة، ويكاد يقول بصوت مرتفع إننا أمام عصر جديد بالكامل، أول كلمة فيه هي أن الكيان يوم السابع من أكتوبر بدا مهتزًا مهزومًا، وأن هزيمته الإستراتيجية طوت ما كان قبلها، ولها ما بعدها، وأنه سيستحيل على العدو مهما فعل أن يتجاوز آثارها الهائلة، مهما أراد، أو مهما فعلت الولايات المتحدة، حتى لو حضرت بقضها وقضيضها إلى الميدان مباشرة.
في ترتيب الأولويات الأميركية؛ يأتي الكيان هدفًا إستراتيجيًا أولًا، وربما وحيدًا، والأطراف القادرة على الحفاظ على هذا الهدف ومنحه فرصة التنفس هي: قطر ومصر. هذه هي الأطراف الفاعلة والقادرة والحيوية اليوم بالنسبة إلى واشنطن والبيت الأبيض، أما السعودية التي تتمسك بهذا الخندق، فهي بلا قيمة في معركة الوقت الراهن.
لكن وليّ عهد المملكة اختار الفريق الخاسر، وبعد الهزيمة ما يزال يضع رهانه على الطرف المهزوم، والمملكة في هذا الخندق ستخسر مقدمًا كثيرًا جدًا، ربما أكثر ما تتحمله الأعصاب، أو تحيط به أيدي البطش الأمني.. المملكة تتواجد في مكان عكس هويتها ودينها وأخلاق شعبها، وهذا الموقف كله يمكن أن نسميه "حرب استنزاف" للطاقة، والنظام خاسر فيه على المدى المنظور.
لم يكن غريبًا وسط الحرب أن يخرج تركي آل ترفيه، كما بات يعرف شعبيًا، بإعلان عن "مهرجان الكلاب"، فقد كان الإعلان أكثر من مناسب للعصر الحالي في المملكة، لم يبقَ الشيء الكثير حتى تتغير الراية إلى عظمتين وجمجمة، لتعبر حقيقة عن ما نعاينه في عصر مجنون قد أمسك وأطبق وحكم.