(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
يمتلئ التاريخ ويزهو بحكايات مكررة ومتشابهة عن أخلاقيات الحروب ونبل الفرسان ومشروعية القتال وعظمته، إن كان تحركًا نحو هدف مشروع. تحاول الأطراف منذ القدم اكتساب مسحة من الشرف لسلاحها، حين يكون دوره قد جاء للعمل، دفاعًا أو هجومًا. وهذا الأمر في العصر الحديث صار أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، بفعل القدرة التدميرية الهائلة للأسلحة الجديدة، والمديات التي يمكن أن تبلغها، وانتشارها، ليس بين الدول فقط، وإنّما حتى الجماعات المسلّحة.
في عالم اليوم؛ يبحث الجميع عن ساتر أخلاقي، يحاولون به شرعنة الحرب وخلق ضرورات إنسانية لها، ليس هدف التغطية هنا تجميليًا، لكنه مطلوب وبشدة. فالأخلاق تصنع الشرعية وتؤكدها، وشرعية الحرب تمنح أي طرف مقاتل ميزتين أساسيتين على عدوه. أولها: أنّ الرأي العام الداخلي يقتنع تمامًا أن النظام يقوده إلى الحرب كوسيلة أخيرة باقية للدفاع عن "حق". وهذا الاقتناع يُترجم إلى تعبئة المجتمع بالكامل، نفسيًا وعقليًا، لتقديم كل ما يملك في ساحة القتال.. فالحرب ليست لحظة حماسية سريعة المرور، وإنّما هي أساسًا عبء طويل وممتد وثقيل، لا بد وأن يتقبّله المواطن العادي، وأن يضحي في سبيله بإيمان ويقين.
الميزة الثانية لامتلاك طرف ما مشروعية أخلاقية لحربه، في عالم اليوم متعدد الأقطاب والمصالح والرؤى، سيترك عدوه وحيدًا معزولًا عن بقية العالم، هذه المشروعية للحرب تجعل حتى حلفاء العدو العسكريين يتردّدون قبل قرار الانخراط في مواجهة مسلّحة؛ لأنّ شعوبهم ستكون ضدهم، ولأنّ الرأي العام الدولي سينبذهم ويفضحهم، وهذه العوامل كلها تُخصم من رصيد العدو ومن إمكاناته ومن أرصدته، قبل أن يبدأ القتال حتى.
في الحرب السعودية ضد اليمن، ارتكب وزير الدفاع –وقتذاك- الأمير محمد بن سلمان كل الخطايا الممكنة، دخل حربًا من دون مسوّغ، ثم هو بدأها بلا أهداف واضحة يمكن تحقيقها، وأخيرًا استمر فيها "عنادًا" وتعصبًا لقراره الخاطئ الأول.. فماذا كانت النتيجة المباشرة؟ فضيحة وهزيمة، ثم هو من حيث أراد نفي ما رآه تهديدًا من اليمن، قد ضاعفه وقواه، وفتح دفتر حساب ثقيل اسمه "الثأر"، بين شعبين جارين وشقيقين.
اليوم تعود الكارثة –أو المأساة- مرة أخرى إلى عقل وليّ العهد، فوكالات الأنباء الأميركية مليئة بأخبار تكشف عن إنشاء "تحالف عسكري بحري" جديد، يضمّ أميركا والسعودية ومصر وبعض الأطراف الأخرى، والهدف المعلن للتحالف هو "حماية الملاحة في البحر الأحمر"..! لا يمكن أن يفكر عاقل مرتين إزاء الهدف الحقيقي: وهو : "حماية كيان الاحتلال من اليمن".
هنا وليّ العهد قد قرر، أيضًا، أن يمضي مع المصالح الأميركية، وهي بدورها تجعل حماية كيان الاحتلال هدفها الأول والأثمن. ومع التدخّل اليمني القوي والمباشر، في الصراع العربي-الصهيوني، فإنّ الكيان بات في خطر مؤكد، ويخسر كثيرًا بفعل القدرات اليمنية الصاروخية والبحرية التي يمكنها ببساطة الوصول إلى كل جنوب فلسطين المحتلة، والأهم: خنق الكيان عبر قطع شريانه الملاحي الأهم، حيث يستورد الكيان 80% من احتياجاته من الطاقة عبر مضيق باب المندب، كما يعتمد عليه بشكل حيوي في أغلب وارداته من الحبوب والغذاء والمواد الخام.
إذا كان الموقف السعودي "بالصمت" أمام العدوان الوحشي الهمجي الذي يستهدف أهلنا ومقدساتنا في فلسطين مدان مبدئيًا، فإنّ موقفًا بالدخول إلى الصراع وفي الخندق الصهيو-أميركي سيكون حادثة كبرى لها ما بعدها. فصورة السعودية الدولة "العربية المسلمة الكبرى" ستكسر أمام الجميع، هذا النزيف لا يصلح له أو بعده أية فرص سعودية في التفاعل القوي مع عالميها العربي والإسلامي، والأهم: أنه سيصدر عنوانًا للحكم في المملكة أنه "طاغٍ مستبد"، يفعل ما يحلو له بالضد من إرادة الجميع وموقف الجميع.
إنّ حال "التعبئة النفسية" التي تعيشها الأمتان العربية والإسلامية مع معركة "طوفان الأقصى"، تجري عملية تشويه وتفكيك واسعة لها، في المملكة والدول العربية التي يراها الأميركي "معتدلة". هذه الحال؛ حيث يرى الناس العاديين أمامهم واقعًا على أساس خاطئ، ويرونه بعيونهم، بينما عقولهم ووجدانهم ومبادؤهم وأفكارهم كلها ترفضه، ستفرض حالًا من الإحباط والشك واليأس، وهي أول نتيجة مباشرة، حين تقع واقعة تجلي الحقائق الساطعة؛ لأنّ أحكام المصالح والتاريخ والجغرافيا والانتماء كلها ستفرض نفسها في نهاية الأمر، مهما كانت جهود تغييبها أو طمسها، سينتصر الشعب الفلسطيني في نضاله، كما انتصرت كل مقاومة مستضعفة في التاريخ، هذا وعد الله الحق.