(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)
بقدر ما تتيح أوقات اليسر للكثيرين فرص وأدوات النجاح السهل، فإنّ أوقات الأزمة تكشف عن حقيقة القادة والفاعلين المؤثرين في حياة الأمم، ويكون ضغطها على الأعصاب تبيانًا واختبارًا صعبًا وصادقًا لمعادن هؤلاء القادة. ومع نهاية عام كامل، مر هو الآخر من عمر الإنسان وبلده، يصبح من الضروري قبل الانتقال إلى تاريخ جديد، وقبل الغرق فيه والتعود عليه، العودة إلى اكتشاف ما الذي أنجزه، وماذا فوتنا، خصوصًا العام 2023، والذي بدأ وهو يحمل إشارات الرخاء، وكاد ينتهي وهو يدق كل إجراس الإنذار وصفارات الخطر.
في ختام عام ومطلع آخر جديد، لا جدال في أن أهم هدف وأكثره إلحاحًا في المملكة العربية السعودية كان التخلص من مرحلة "الاقتصاد الريعي" والانتقال إلى عصر التنويع الاقتصادي. وهو الأولوية فيما يعرف بـ "رؤية المملكة 2030"، والتي وضعت كما أعلن بهدف عبور عالم النفط المورد الوحيد للدولة، وما يمكن أن يشكّل حكمًا واضحًا على هذه الخطة الوطنية هو إجابة سؤال: هل يمكن للمملكة الحياة اعتمادًا على قطاعات اقتصادية حقيقية مستدامة، مثل الصناعة وبشكل أقل الزراعة؟
ما هو ثابت بالأرقام الرسمية السعودية –وحدها- هو أن النمو الاقتصادي في المملكة مرتبطًا أشد الارتباط بمدى التغيرات الحادة، بسعر برميل النفط. وخلال ثماني سنوات، من 2015 وحتى 2023، يتحقق الفائض ويكسو اللون الأخضر المؤشرات والشاشات حين يرتفع النفط وتحمر حين يهوي، هذا هو الثابت الدائم والحقيقة الأولى العارية في المملكة، مهما تغيرت الأعوام وتبدّلت الخطابات والنسب.
ما هو واضح من النسب، والتي أعلنتها وفاخرت بها "الهيئة العامة للإحصاء" العام الماضي، هو أن المملكة قد تربّعت على عرش الاقتصاد الأسرع نموًا في العالم، فارتفع النمو الاقتصادي بشكل أساسي من المكاسب الهائلة من صعود أسعار النفط التي بلغ متوسطها نحو 100 دولار/ للبرميل، فحققت المملكة أول فائض في الموازنة خلال عقد كامل.
العام الحالي شهد "انتكاسة" كبرى في توقعات وزارة المالية لموازنة 2023، إذ توقع وزير المالية محمد الجدعان، في تقريره للإعلان عن موازنة العام الجديد 2024، أن نمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023 يبلغ 0.03%، مع تسجيل أول انكماش في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 4.5%، خلال الربع الثالث من 2023 على أساس سنوي.
إذًا ارتبط النمو والعائدات والإيرادات بسعر برميل النفط، تقول بيانات وزارة المالية التي جرى الإعلان عنها إن الاقتصاد السعودي حقق قفزة في الإيرادات "غير النفطية- عدا البتروكيماويات"، ثم تهتك موازنة كل عام ستر الجمل البائسة والإعلام الرسمي الذي انحط إلى "إعلان رسمي"، وأن كل خطط الرؤية 2030 والتحول 2022، لا تثبت في ميدان الحقائق الساطعة، ثم هي تذهب إلى صحاري النسيان والضياع، وأنه لكي تتجاوز المملكة عصر النفط لا بد وأن تعترف بأنها أولًا أسيرة لعصر النفط.
وزير المالية لا يناقض نفسه؛ حين وقف في مؤتمره الصحفي وتحت أضواء الكاميرات ليقول الجملة المحفوظة ذاتها، في ختام كل عام واستقبال كل عام: " تركيز رؤية المملكة 2030 على الاقتصاد غير النفطي بدأ يحقق نتائج ملموسة"، ثم يتبعها بزهو الواثق المختال أن: "حصة الإيرادات غير النفطية من إجمالي الإيرادات السعودية في 2023 بلغت 37%"، لا يشعر أنه يقول على الملأ إن ثلثي الإيرادات السعودية، بعد 8 سنوات كاملة من التخطيط والعمل، تأتي فقط من النفط، وإن الثلث الباقي هو الآخر من قطاعات نفطية كالبتروكيماويات أو الاستثمارات الحكومية المكثفة لتغطية فضيحة الأرقام.
ما لم يقله وزير المالية إن الخفض الطوعي لإنتاج النفط في المملكة، للحفاظ على ثبات الأسعار فوق 80 دولارًا/ للبرميل، والذي ارتفع من نصف مليون يوميًا في مايو/ آيار، إلى مليون برميل يوميًا في يوليو/ تموز، وهو ما شكّل ضغطًا على موازنة العام 2023، وسيشكّل ضغطًا أكبر على العام المالي المقبل، وفقًا لاجتماع مجلس الوزراء برئاسة الملك سلمان، والذي أقر الميزانية العامة للدولة للعام المالي 1445/ 1446 هـ (2024م)، متضمنًا إيرادات تُقدّر بنحو 1.172 تريليون ريال، ومصروفات 1.251 تريليون ريال، بعجز مقدر يبلغ 79 مليار ريال!
إنها حقًا كما وصفت موازنة العجز.
يعدّ أحد أذكى التعريفات الاقتصادية بشأن "الاقتصاد الريعي" وأكثرها شمولًا، هو ما يُعرف بـ"المرض الهولندي". وهو باختصار الأثر السلبي والجانبي الذي تحدثه زيادة مفاجئة وكبيرة في مورد اقتصادي معين –النفط أو الغاز في حال هولندا- على الاقتصاد الكلي للدولة. فقد تتزامن الثروة الجديدة والممثلة في ارتفاع إيرادات دولة ما من أي مورد طبيعي في ارتفاع موازٍ لسعر صرف العملة المحلية أمام الدولار، ثم رفع قدرة الدولة على الإنفاق الحكومي وتمويل المشروعات الجديدة غير ذات الجدوي الاقتصادية. وهو ما يرفع بدوره من معدلات التضخم، ثم ارتفاع الأجور تتاليًا، ليفاقم من أزمة هروب الاستثمارات الجديدة والعمالة من كل القطاعات غير النفطية. عندها قد تستغل الدولة التدفقات الجديدة لمسوّغ زيادة مستويات الديون والقروض، ما يشكّل بدوره دافعًا- كما حدث في المجتمع الهولندي- إلى التراخي والاستهلاك الترفيهي والبطالة...
ثلاث أسباب تقترن بهذه الحال التي يصدق عليها وصف "المرض"، مهما ظهر من أرقام تدعو للتفاؤل والهدوء.