(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
لم يكن غريبًا أن يكون القرار السعودي، اليوم بالذات، هو الإعلان عن أول متجر لبيع الخمر في العاصمة الرياض، بعد زمن طويل من المنع بدواعي تحريم النص الديني، اولذي كان مقدسًا.
لم يكن القرار ولا توقيته ولا الطريق الذي تسير فيه المملكة مفاجأة، ولا قدرًا جديدًا خرج إلينا من الفراغ، القانون ابتداءً هو: مجموعة القواعد التي تنظم الحقوق والعلاقات التبادلية بين أفراد المجتمع بعضهم البعض، وبينهم وبين الدولة، وهو بالتالي فكرة لا تنشئ واقعًا؛ وإنما تقنن الأوضاع وتفسّرها وتحكم عليها وتفصل بينها.
ما نُشر رسميًا هو أن الحكومة السعودية قررت "افتتاح متجر لبيع المشروبات الكحولية في الرياض، للمرة الأولى منذ 70 عامًا، ويقدم خدماته للمغتربين غير المسلمين العاملين في المجال الدبلوماسي". هذا هو القانون الجديد الذي يدشّن مرحلة غير عادية في تاريخ السعودية، حيث سقطت الموانع وفتحت القلاع فجأة، وكما يأتي الغزو كاسحًا ماحقًا لكل شيء، وهو قرار ينتظر أن تتلوه قرارات أخرى، بحكم الأمر الواقع الذي خلقته "دولة الترفيه المبتذلة والمهرجانات الراقصة"، تلبية لمطالب هذه الفئة الغريبة التي نشأت وكبرت وارتفع صياحها، وهي دائمًا تطالب بتقنين حقها الشرعي الذي كسبته في غفلة.
الواقع يقول إن المملكة العربية السعودية قد اختارت هذا المسار للحظة - يتصور ابن سلمان- تطورها الحضاري ذي النزعة الغربية التي تخاصم في البدء والنصف والخاتمة كل ثوابت الدين والتقاليد الراسخة والعرف العام، وحتى الأخلاق المجردة، وأن القرار الجديد بتدشين عهد تجارة الخمر ما هو إلا درجة تصعد عليها السعودية في سلم أحلام ولي العهد.
هي خطوة بالتأكيد ستكسبه رضا إعلامي غربي، يحاول جاهدًا أن يصل إليه ما وسعته الحيلة، سواء عبر إصراره على التطبيع مع الاحتلال، مع كل جرائمه الجارية في فلسطين، أو عبر تغيير الصورة النمطية للمملكة السعودية إلى دولة منفتحة أمام الغرب من دون قيود ومندفعة إليه بغير مكابح، وهي ذاتها الصورة التي يعززها قانون الخمر الجديد.
الغريب، في التناول الإعلامي للقرار، ليس حَمَلة المباخر الرسميين الذين يحاولون الظهور بشكل الغيور على سمعة المملكة والحريصين على مواردها وضرائبها من تجارة الخمور، فهم أولًا يقولون إن التجارة موجودة وقائمة، وإنها طالما وجدت؛ فلماذا لا تستفيد الخزانة العامة بها، بالضبط كما يحدث في دول عربية أخرى، والرد منهم وعليهم أن هذه الدول الأخرى سبق وأن جربت ذات الكأس وشربته مرارة وذلًا، فلم تفد خزائنها ولا انعدلت موازينها ولا حتى تحسنت حالها.
المملكة بهكذا قرار تنزف من دون أن تعي نقاطًا كثيرة من دورها و"ثمنها" في المنطقة والعالم الإسلامي، بالقدر المؤلم ذاته الذي تسببت فيه مهرجانات الترفيهز يكفي في هذا السياق تناول أو متابعة ما تقوله مواقع التواصل الاجتماعي عن المملكة التي تعاند الشعور الديني بالسماح بتناول المحرمات في أطهر بقاع الأرض. وهو أيضًا تطور له ما بعده، فالسعودية لا تظهر دولةً مهمةً أو كبيرة عربيًا وإسلاميًا إلا بقدر ما تعبر عن أحلام وطموحات أمتها، وتقود أمتها من حيث هي تعبر عنها، وفقط.
ما يقال تهيئةً لقبول قرار غاشم، هو ذاته قول كل سلطة طاغية مستبدة في كل عصر وأي مجتمع، التسويغ بقاعدة "الغاية تسوّغ الوسيلة"، وإذا ما كانت المملكة تريد التحديث وتنويع اقتصادها وتجاوز عصر النفط بسرعة، فمن الأفضل اللجوء للسياحة حلًا يوفر أرضية للتطور والتغيير، وبالطبع لن تأتي السياحة سوى بالخمر اليوم، وغدًا بتقنين وشرعنة الدعارة وغيرها من الخدمات السياحية، لكن هل بالفعل الحلّ هو في الخمر أو في السياحة بشكل عام.
الواقع يقول إن المملكة هي أهم مقصد سياحي على وجه الأرض، ولديها أقدس المواقع وأكثرها جلالًا وحضورًا في نفوس مليوني إنسان. وإن أرادت السعودية- ببساطة- أن تحوّل فريضة الحج إلى سياحة استثمارية –وهي قد بدأت بالفعل- فعليها أن تستثمر هناك في الغرب، حيث المدينة ومكة ومناطق المشاعر المقدسة، لا في الرياض أو العلا ولا أبها، ثم إنّ السياحة بصفتها نشاطًا اقتصاديًا هو نمط ريعي تابع، تؤثر عليه عوامل كثيرة لا نهائية الاحتمالات، وأزمة كورونا وإغلاقها الأسود ما تزال قائمة وقريبة تذكّر بما يمكن أن يطرأ على قطاع السياحة كله في لحظة، ومن خارج منهج الحسابات.
القطاعات الاقتصادية الحقيقية، سواء الصناعة أم الزراعة، هي القطاعات التي يجب أن تتوجه إليها السعودية إن قررت أن وقت التغير قد حان، استثمار فوائض المال الهائلة في البدء الفوري بمشروع ألف مصنع أو ألف مزرعة ضروري وحتمي. وهو الضمان الحقيقي لكي لا تحل لحظة الحساب وقد نزفنا مقدمًا كل طرق النجاة المتاحة اليوم، وهو قرار جريء وكبير لكنه يحتاج لصنف من القيادات واعية، ترى وتفهم وتشعر.