(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
يقال إنّ روح لعبة الاحتيال هي أن يتوافر لها طرفان، ذكي وطامع. الأول يثير شهوة وغريزة الربح السهل والمال الوفير. أما الطامع؛ فجشعه يعميه عن رؤية الحقيقة بالرغم من انتباهه إلى الإشارات الواضحة التي فوّتها. والضحية، في هذه اللعبة، هو الجاني على نفسه، في آن. وهو يقع في فخ الخدعة؛ لأنه صدقه وكان يريد تصديقه، ولأن اختلاله لم يترك في مقدوره إلا أن يصدقّه.
هذا هو الملخص غير المخلّ بالقصة المملة البائسة المتعلقة ببيع حصة من أكبر منتج نفط في العالم "أرامكو"، وواحدة من أعلى الشركات قيمة وأهمية.. الدجاجة التي تبيض كل عام الذهب، وتورده إلى الخزانة السعودية، ولأنّ التسرع والطمع هو سيد الموقف الحقيقي في الرياض، فالرغبة محمومة ظهرت منذ سنوات، تريد وتتطلع إلى بيع حصة كبيرة من الشركة –مضمونة الربح- لتحقق هدفين في الوقت ذاته: رفع سيف العجز عن رقبة الموازنة السعودية التي تُستنزف بشكل عجائبي، والثاني هو منح المشروعات "الخيالية" هائلة التكاليف لوليّ العهد الأمير "محمّد بن سلمان" وقودًا تتحرك به لتنتقل من عالم الخطط إلى الواقع، وعلى رأسها بالطبع مشروع نيوم، بتكلفة مذهلة تبلغ نصف تريليون دولار.
كانت "أرامكو" هي الحل الذي تفتق عنه ذهن الأمير، وهي قد اكتسبت لنفسها سببًا ثالثًا مهمًا، حين خرجت الفكرة للنور، وهو اجتذاب استثمارات ومستثمرين إلى المملكة، ما يضمن تغيير صورتها النمطيّة من دولة منغلقة إلى دولة جديدة مفتوحة للجميع. وهو بالذات ما يشفي غليل الأمير الذي يتطلع دائمًا، وقبل أي شيء آخر، إلى صورته في صحف الغرب ووسائل إعلامه ونشرات أخباره.
لقد سبق؛ وأن حاولت المملكة العربية السعودية، منذ العام 2019، تجربة طرح حصة من أسهم "أرامكو" في حدود 5% في بورصات عالمية، لكن الأمر لم يتمّ حينذاك، نظرًا إلى أسباب تتعلق بالشفافية والإدارة والكفاءة. وهي كلّها معايير لا تجيزها أسواق المال العالمية، ولا يمكن للسعودية أيضًا تعديلها لتناسب طرائق الإدارة الاقتصادية الرشيدة، وهو ما جعل الأمور تنتهي إلى طرح 1.5% من الأسهم في السوق السعودية فقط، وبلغ إجمالي ما جمعته الشركة نحو 30 مليار دولار، وهو كان واحدًا من أضخم الطروحات الأولية في العالم.
في هذه الأيام؛ عادت "أرامكو" إلى الواجهة، حيث كشفت شبكة "بلومبرغ" الاقتصادية أن المملكة العربية السعودية تجري محادثات متقدمة مع عدد من البنوك- منها "سيتي غروب" و"غولدمان ساكس" و"إتش إس بي سي هولدينغز"- لإدارة طرح آخر كبير لأسهم عملاق النفط "أرامكو"، في صفقةٍ تستهدف جني نحو 20 مليار دولار، وتسعى الحكومة السعودية لحشد هذا العدد من المستشارين لعملية الاكتتاب التي ستحدث في الأسابيع القليلة المقبلة، لاستكشاف اهتمامات بورصات عالمية أخرى بطرح من هذا النوع.
يظهر من فصول قصة أرامكو أن المملكة الجديدة ليست بصدد عملية تنمية تحمل الدولة إلى الرخاء، بل إنّها تقود عملية استغباء إزاء أعبائها وأدوارها المفترضة في الإدارة. وهي القضية الأساس لأي دولة، ليس مؤكدًا أن المجتمع السعودي قد تحصل على تغيير –اللّهم إلا برامج الفضائيات- وأن ما تنازل إليه المجتمع من بعد ذلك هو أكثر ممّا تتحمّل الروابط والموارد الحقيقية، وهو كلّه يلقي بظلال عميقة وكئيبة من الشكّ حول سؤال المستقبل، سؤال المصائر.
في الواقع؛ أرامكو لا تعد إجابة على تحديات المملكة ولا عن مستقبلها، المملكة سقطت في معضلة ما الذي خُلق أولًا الدجاجة أم البيضة؟ في وقت ينطلق فيه العالم حولنا بالصاروخ إلى آفاق جديدة، وغير متصورة، وأنه في العام 2015 كانت "أرامكو" هي أكبر شركة في العالم من حيث قيمتها السوقية، لكنها اليوم في 2024، فقد حلّت Apple على القمة بـ 3 تريليونات دولار، ثم شركة Microsoft بـ 2.95 تريليون دولار، ثم أرامكو بـ 2.04 تريليون دولار، الشركة السعودية باتت الثالثة على لائحة كبيرة وتتضخم، وليس من الواضح أصلًا قدرتها على الاستمرار بين العشر شركات الأكبر، خلال سنوات قليلة مقبلة، فبينما ترتفع قيم شركات التكنولوجيا الأميركية، العملاق السعودي متجمد.
للمصادفة، قبل أسابيع قليلة وفي مؤتمر "دافوس" الاقتصادي، أعلن أميتاب بيهار المدير التنفيذي لمنظمة "أوكسفام" الدولية لمكافحة الفقر أن العالم سيشهد، خلال أقل من عقد واحد، ظهور أول "تريلونير" على الإطلاق. وإذا وصلت ثروة شخص واحد إلى تريليون دولار؛ سيكون له قيمة السعودية الغنية بالنفط بالضبط، وأن النظام العالمي كله يعمل كي نصل إلى هذه اللحظة، حين لا تتوقف وتيرة ارتفاع الثروات بشكل لم تعرفه البشرية من قبل، مؤكدًا أن ثروات أغنى 5 رجال في العالم، الرئيس التنفيذي لـ "تسلا" إيلون ماسك، برنارد أرنو وعائلته من شركة LVMH ومؤسس أمازون جيف بيزوس ومؤسس أوراكل لاري إليسون وخبير الاستثمار وارن بافيت، ارتفعت 114% بالقيمة الحقيقية منذ العام 2020، بينما 5 مليارات شخص باتوا أكثر فقرًا.