(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
إذا كانت المعايير المنطقية والموضوعية لأي مناسبة وطنية سنوية هي حساب التكاليف مقابل ما قُدّم فعلًا، في مدة زمنية محددة، كأنها موعد مع التاريخ للتروي والحساب، فقد خسرت المملكة خلال العام المنقضي الكثير، ولم تحصد إلا القليل.. فقد انهارت أحلام وآمال على صخرة الواقع والحسابات الضيقة، بعض هذه الخسائر كان مفهومًا، أما الباقي فإنه كان وما يزال وسيبقى ظلامًا محيرًا للعقول، ومركز دوامة تبتلع المزيد من الإمكانات والفرص وحتى الأفكار.
كثرت الأعياد والاحتفالات، في المملكة الجديدة، التي يرعاها صاحب السمو ولي العهد محمد بن سلمان، لكن الاحتفال التقليدي بيوم التأسيس 22 شباط/ فبراير 1727 أو في 1932، حين كان هذا التأسيس كيانًا جديدًا وحقيقة في المنطقة والعالم، ومن المهم أن نعود إلى التاريخين معًا لفهم هذا "اليوم" وخصوصيته، وبالتالي غرابة ما يجري فيه اليوم بالذات!
في العام 1727، وبعد الاجتماع الأشهر بين ابن سعود حاكم الدرعية والشيخ ابن عبد الوهاب قبلها بثلاث سنوات في 1724، انطلقت جيوش الأمير والإخوان تحمل "أجندة" واضحة هي تحرير بلاد الإسلام والحرمين من الشرك ومظاهر البدع –هكذا قيل- وتحولت الإمارة الصغيرة في منطقة نجد المحصورة فجأة إلى قاعدة دولة جديدة، اكتسحت أغلب مناطق ما نعرفها اليوم بالسعودية، ثم انتهت هذه التجربة بعد تدخل عسكري ضدها، وهكذا قُضي على المملكة الأولى لآل سعود.
في العام 1932، تمّ أخيرًا حلم إقامة الدولة السعودية الثالثة، على يد الملك المؤسس عبد العزيز، وهي كانت خطوة استكمالًا لما بدأ به أجداده قبل ذلك بقرنين من الزمان، ووفقًا لما استجد على الساحة العالمية من تأثير إمبراطوري بريطاني كان لا يُضاهى، وكان حاضرًا موجودًا في خلفية المشهد الذي قامت فيه لندن وباريس بتقسيم المنطقة بسكين بارد، وأعملوها تقطيعًا في جثة العالم العربي. لكن الظرف الذي كان يجري مأساويًا في الشام والعراق جاء منحة للسعودية التي نجحت أخيرًا في إتمام حلمها بضم كامل إقليمها، بما فيه بلاد الحجاز.
ما يجري اليوم ليس تجديدًا ولا تحديثًا، بل هو عبارة بعنوان زمن اللهو والصغار، حين يتحكّم نصف عاقل بدولة كبيرة، فإنّ النهاية هي مأساة حتمية، حين يبدو لحكّام المملكة اليوم أن ما يجري من احتفالات متتالية تحت رايات "هيئة الترفيه" من الممكن أن تصنع لهم دور في المستقبل، فهم جناة على أنفسهم وعلى الناس، وإن ظنوا حتى إن تأثيرًا إقليميًا أو محليًا قد يتحقق بالغناء أو بالفن فهم في غباء شديد.
الفن والآداب وغيرها من إنتاجات الحضارة البشرية، هي قشرة يصنعها التقدم السريع، وتتفاعل مع المسيرة الإنسانية الحافلة والخلاقة، لتكتسب بريقها وتوهجها.. هي إشارة من ضمن إشارات تقول إن أمة ما تتقدم في طريقها، وتترك آثارها حيّة نابضة على جبين الأيام. أما التعامل معها على أنها هدف أو سبيل بحد ذاته فهو عين الغباء وقصر النظر، هذا إن تحدثنا عن أرقى الفنون والآداب، وليس منها كرة القدم بالطبع، والتي ستكون شاهدًا عكسيًا على البلاهة حين تحكم وتتحكّم بعصا القهر المسلح، وهي ليست نظرة منحرفة للأمور لكنّها أصلا انحراف كارثي، ويحتاج تقويمًا في أصل الفكرة وصاحبها أو أصحابها.
لو جاز أن نصف هذا الاحتفال الذي جرى في المملكة لأسميناه "سخرية الأقدار"، فمن عجائب الدهر وتقلباته أن يحتفل لاعبو كرة القدم بهذا اليوم بالذات، أن يتولّى الترويج ومحاولات الإبهار بذكرى التأسيس كريستيانو ونيمار وبنزيمة، أن يصل الخيال البائس بأحدهم لكي يحوّل القصة كلها إلى فصل من فصول الكوميديا السوداء التي تحكم المملكة اليوم من خلف الستار.
لو قُدّر لمؤسس المملكة أن يعاين ما يجري اليوم بعيون حيّة، فممّا لا شك فيه أنه سيموت كمدًا على منتهى الحال.