(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
لم يكن غريبًا خروج الملك سلمان بن عبد العزيز بخطاب لمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، وأن تتضمن عباراته تمنيات بأن: "يجعل في هذا الشهر الكريم الخير والسلام للأمة الإسلامية والعالم أجمع"، وأن يحمل في متنه إصرارًا على إبراز صورة "السعودية مهد الإسلام، بانطلاق رسالة الإسلام من أرضها، واختصّاصها بخدمة الحرمين الشريفين ورعايتهما والعناية بهما وبقاصديهما، وإكرامها بخدمة المشاعر المقدسة".
كان هذا تقليدًا اعتياديًا يصحّ في كل شهر رمضان، إلا هذا العام وهذا الشهر الذي يصبغه الدم والموت ويرافقه الدمار، كان من المفترض للخطاب أن يحمل جديدًا بشأن رؤية المملكة لما يحدث في فلسطين، والذي لا يقلّ وصفه عن جريمة إبادة جماعية. كما بدأ أخيرًا يتردد بخجل في وسائل إعلام غربية، وليست عربية، لكن المتكلم رفض في عناد أن يرى الحقيقة والخطر، وإن رأى لا يشعر، وإن شعر لا يتحرك.
كان يراد لصورة الخطاب أن تكون جيدة وأن تظهر تفاعل الملك مع الأحداث، لكنها كالعادة وقعت في أخطاء مريعة حوّلتها إلى كابوس مفزع، عبر سلسلة من الأخطاء الكارثية. أولها أن من ألقاها هو سلمان الدوسري، وزير الإعلام في حكومة ولي العهد، وغياب الملك بدلالاته جعلت منها رسالة سلبية خالصة من رجل يتكلم من بعيد جدًا، وخاصمت التوقيت الصحيح في السياسة. وهذه الأخيرة وحدها كفيلة بإفشال ونسف قرارات وإجراءات وتبديد سياسات، نطق الملك أخيرًا بعد 159 يومًا من حرب حقيقية تدور رحاها في فلسطين المحتلة، بعد أن صمت دهرًا، وليته ما نطق.
الخطاب الصادر من الرجل الأول في المملكة لا يخرج كثيرًا عما يقوله يوميًا وزير الخارجية في الأردن أو مصر وقطر، هو "يتمنى" وقف الاعتداءات في فلسطين. وهذا الخلط والتشويه وحده جريمة دينية وسياسية وإنسانية، أن نتبني مواصفات وتعريفات الولايات المتحدة الأميركية لما يجري في فلسطين، هل صارت مساواة الضحية البريئة بالجلاد الصهيوني المجرم سهلة ومباشرة إلى هذا الحدّ؟ ثم هل نسى من "كتب" هذا الخطاب أن اللقب الرسمي للملك هو "خادم الحرمين الشريفين"، وإن لم يكن ما يعنيه ما يجري في أرض تضم القدس الشريف من شلالات دماء، ومعركة تجويع وحشي معلنة حتى الموت لـ 2.3 مليوني مسلم، بشكل لم تعرف الإنسانية له مثيلًا من قبل؟
فما الذي يعنيه المقدسات ولا شهر رمضان ولا الدين كلّه والشرف كلّه بهذا الموقف الذي يتعلق بسراب الوهم والأمنيات، مثله مثل أي عاجز منزوع القدرات؟
كان ظهور الملك مطلوبًا للتعبير –على الأقل ولو بالكلمة وخلفها الضمير- عن موقف ثابت للمملكة السعودية من الصراع العربي-الصهيوني، وتغييرا جديًا في إدارة هذا الملف بأثقال خيباته والضرر الذي أصاب صورة الدولة الإسلامية الكبيرة بسبب سياسات ولي العهد، واستعداده في سبييل "مملكته الجديدة" للذهاب إلى "تل أبيب" وانتزاع اعترافه بها من هناك أولًا، عبر اتفاقية التطبيع سيئة التقدير والحظ، والتي ما إن طرحت على الكيان كإعلان عربي يقدم لها كل شيء من دون مقابل تقريبًا، إلا ووجدت أيادٍ عربية أخرى شريفة تتجرأ على خلط كل أوراق المؤامرة في المنطقة عبر عملية "طوفان الأقصى" البطولية المجيدة، فائقة التميز، كعمل واحد صحيح في وسط فوضى زاعقة ومسيطرة، استطاعت عملية الطوفان أن تنجح وأن تكشف ضعف هذا الكيان وهشاشتهز كما عرّت خطوة التطبيع السعودي، وكل فعل تطبيع سابق، ثبت أنه كان خيار أصحاب النفوس الضعيفة لبيع القضية تحت شعارين متوازيين: وهم تفوّق العدو ووهم السلام، وكلاهما دفن في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى غير رجعة.
كان لافتًا في خطاب من يُقدم نفسه "خادمًا للحرمين الشريفين" أنه تزامن مع تحول نوعي في استهداف العدو للمدنيين الفلسطينين في "تجمعات الجوع" التي تنتظر "المساعدات غير الإنسانية" التي تلقيها الطائرات على القطاع المحاصر منذ 17 عامًا، لتترك لنا في أول أيام شهر رمضان "الكريم" جريمة تفوق حد التصور لبشاعتها ومرارتها، 1000 إنسان قتلوا بدم بارد وأصيب 1300 آخرين في منطقتي دوار الكويت وشارع صلاح الدين، بينما كانوا ينتظرون الحصول على وجبة تسدّ رمق أسرهم التي تشردت بين القطاع المدمر والمعزول شمالًا، والمهدد باجتياح دموي جنوبًا في رفح، وقصف تدميري شامل للقطاع ومقومات الحياة الإنسانية فيه، قد وصلت بما يحصل عليه الشقيق في فلسطين من مياه –قد تصلح- للشرب إلى لترين اثنين فقط!
هل يستطيع إنسان مسلم عاقل مكلّف أن يتجاوز هذه المأساة الإنسانية المروعة، ويقفز فجأة إلى "التهنئة بحلول شهر رمضان"، ثم هل عجز الملك أو سلبت منه ورقة التوت التي كانت تترك مساحة "محترمة" بينها وبين السياسة الأميركية، لنعاينها في الأخير تتحدث بلسانها وفلسفتها وترى بعينها العوراء ما تريد هي لنا أن نراه؟
نحن نقف أمام ملك سعودي كان يستطيع أن يغيّر الواقع بقرار فاعل في مسار الحوادث، أن يعلن رفض الانخراط بالكامل في هذا الجنون الصهيو-أميركي، ويحاول –وهو يملك- التأثير على الوضع من حيث هو في قصره، وإجبار العالم على الالتفات لقضية ضمان إيصال المساعدات الإنسانية، في أقل القليل كان يستطيع التلويح بالرفض، الملك الذي فسّر البعض صمته برفض سياسات ولي عهده المندفع، تحوّل في النهاية إلى كتلة شحم ولحم مهملة، وتاج منسي يعلوه الصدأ، ويكاد يُنسى تمامًا مع جريان الحوادث!