(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
يبقى إلهام أرض شبه الجزيرة العربية، مهد الدين والحاضنة الأولى للشخصية العربية، حاضرًا بقوة في الشخصية العربية المعاصرة، وكأن الذاكرة الأقدم في الزمان البعيد تلاحقنا، وهي الآن تدركنا، وتمنحنا فرصة نادرة جدًا لإعادة تعريف الموقف والظرف والروح، البيئة الصحراوية البعيدة تلك هي التي تنير لنا طريقًا واحدًا إلى المستقبل، إن كنا نريده.
الشاعر المصري الراحل أمل دنقل، كان أحد أبرز الشعراء العرب ممن نهلوا من نبع الحكايات العربية القديمة الصافية، وأجاد بعبقرية وفطنة في إعادة تقديمها بأسلوب معاصر، وإسقاط حكمة الماضي على إشكاليات الحاضر، وتشبيك الضمير الجمعي للأمة بقيمها النبيلة الخالدة، مثل الشهامة والمروءة والفداء، والأهم أنه رسخ في الوعي العام معنى كلمة "الثأر"، ورفعها من فكرة قبيلة وعصبية قديمة إلى شكل من أشكال تفرد الشخصية العربية ونقاءها وإصرارها وعنادها وصبرها.
إذا ما تعلق طرف الحديث بأمل دنقل فإن الذهن يستعيد على الفور "لا تصالح" إحدى أروع وأكمل قصائده، وأبدع ما جاد به الشعر الحديث علينا، بشكل لا شعوري أحيانًا ارتبطت هذه القصيدة الأشهر بالصراع العربي-الصهيوني أكثر مما ارتبطت بقصتها الأصلية التي هي وصية كليب بن ربيعة إلى أخيه الزير سالم، بعد أن طعنه ابن عمه جساس غدرًا، وهي فكرة كانت أبلغ من كل قول أو فعل غيره، في وجه ذهاب بعض العرب حينذاك إلى التطبيع، وهي إن كانت مكتوبة لخيانة السادات الأولى، فإنها لا تزال صالحة في وجه كل خائن وكل صلح جديد.
في تحفة أمل دنقل البهية، الذي جاء إلى الدنيا كشهاب هائل الأثر والنور والإشعاع، ثم انطفأ مع مرض السرطان وغاب صغيرًا عن عمر 43 عامًا فقط، يقدم لنا الدور الحقيقي للنخبة والمثقف والفنان، وأنه ضمير أمته اليقظ وقلبها المشتعل بالغضب والألم، وروحها المشتاقة إلى تحقيق أعز أمانيها، إنه المعنى الخام لكلمة "الواجب" المفروضة على كل من تقدمه بلد ما في أول صفوفها، ومن تمنحهم الجماهير أصواتها ليصيغوها ويعبرون عنها بصدق وإخلاص، هذه هي وظيفة الفكر والثقافة والفن، وهذه أيضًا البديهية الغائبة التي لا يعرفها عصر تركي آل ترفيه وغربانه الناعقة.
في استخلاصه للمبادئ والمثل العليا في قصص الصحراء، استطاع الصدق الذي عبر عنه دنقل مسائلة الحاضر ونقده، واستشراف المستقبل عبر ربط خيوط الماضي باليوم، ورؤية الوليد الجديد –المستقبل- وهو لا يزال يتشكل ويحبو على أرضية الواقع، رأى الشاعر الذي سبق عصره نهاية طريق مصر إلى السلام مع العدو الصهيوني (وقع اتفاق السلام في نهاية آذار/ مارس 1978) خرابًا كاملًا وشاملًا وعميقًا، لا يبقي ولا يذر، وفي مقطع حاد قاطع واضح، قال كلمته الأخيرة قبل أن يمضي: "كيف تنظر في يد من صافحوك.. فلا تبصر الدم في كل كف؟ إن سهمًا أتاني من الخلف.. سوف يجيئك من ألف خلف"، ونالت مصر ألف سهم من ألف خلف، كان "دنقل" جد بارع في فهم وهضم الصورة الكلية للأحداث في وطنه وأمته وعالمه، وهو وصف ما سيقع اليوم وكأنه رآه بالأمس عيانًا.
بعيدًا عن المعنى السياسي المباشر، وهو لا يستحق إيضاحًا بعد، ما هو لافت أيضًا في مسألة الفكر، إن ما يقال عنه مشروعًا فنيًا في المملكة العربية السعودية لا يعدو أن يكون شراء فنانين، كما تشتري الأندية عقود لاعبي كرة القدم مثلًا، فتقدم الجنسية السعودية مع ملايين الريالات إلى فنانين عرب، ثم تحاول الهيئة المشبوهة تقديم منتوجها النهائي على أنه "الفن السعودي"، ثم تتمادى في الغي لتقول إنه مشروع للمستقبل وقادر على أن يغير شكل المملكة أو يبدل ملامحها، أو يكسبها أدوارًا إقليمية أو عالمية، فقط لأنها جذبت بعض المهرجين إلى مسارحها، ويا له من إنجاز مدهش!
في كتابه الأشهر " المئة: ترتيب أكثر الشخصيات تأثيراً في التاريخ"، من تأليف مايكل هارت، يقول الكاتب في المقدمة إنه وضع قائمة احتوت على أسماء مئة شخص رتبهم حسب اعتقاده بمدى تأثيرهم في التاريخ، واتبع أسساً محددة في ترتيب الشخصيات، مثلًا وضع القادة والعلماء في مرتبة أعلى من غيرهم، ثم إنه أخر ترتيب الفنانين والأدباء والموسيقيين، فكل هؤلاء تبعًا لتعريفه للشخصية "الأكثر تأثيرًا" كانوا نتاج بيئة خصبة وثمار طور حضاري كامل، ومخرجات أمة قد أحرزت تقدمًا ملموسًا على مقياس الحقائق المادية، وكان من المنطقي أن يوصل الإنجاز إلى الإبداع، وإلى استخراج الطاقات الفنية والأدبية وغيرها، لكنهم بذاتهم لا يصنعونها كما يفعل القادة.