(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
دارت الأيام دورتها الكاملة، وعادت قوة الحقائق ونورها الساطع فجأة إلى المسرح/الوطن السعودي، وأزالت كل وهمٍ كان باقيًا من انقلاب بائس ومأساوي في قيم رشادة الحكم ومعايير الإدارة.
لقد حلّت لحظة الانكشاف بالنسبة إلى مشروع "نيوم"؛ فإذ هو فشل جديد يُضاف إلى دفاتر الخيبة وأعباء الخسائر، حيث لم تكن ذرائع الذهاب إلى شمال غرب المملكة لإنشاء عالم جديد وحيًا جديدًا قد هبط فجأة، ولا التماع عقل بفكرة خلاقة، وإنما كان مجرد مغامرة حمقاء مورست بأقصى مدى من الاندفاع النزق.. وحين نفد وقود المخدر، توقفت الخطى حيث هي، لا تدري إلى أين وصلت بالضبط، ولا كيف تعود من هناك؟.!.
أخيرًا؛ تواترت أخبار متعددة وتصريحات كثيرة متتالية لمسؤولين سعوديين بشأن "تقليص مشروع نيوم" ومدينة "ذا لاين" الخيالية. جاء ذلك طبيعيًا ومتوقعًا منذ البداية أو بعدها بقليل. إذ عديد من الخبراء والمتابعين كانوا يجزمون بإنّ إنجاز هذا المشروع أقرب إلى الخبل منه إلى الحلم، اليوم لم تعد الموازنة السعودية تتحمّل المزيد من الاستنزاف المستمر المدمر بالشكل الذي حدث خلال 9 سنوات متتالية، حتى وصل عجزها المقدر إلى 4% في العام المالي الحالي 2024، نتيجة لانخفاض أسعار النفط وتراجع الإنتاج والآثار العكسية التي تضرب الأسواق العالمية بفعل أزمتي الفائدة والتضخم المستمرة..
كتبت هذه الأسباب الثلاثة نهاية وهم "نيوم"؛ كما أسهم تراجع السيولة في الصندوق السيادي السعودي والاضطرار للذهاب إلى الاقتراض بكثرة، سواء من أسواق المال العالمية أو القرض الكويتي الأخير، إلى إغلاق هذه الصفحة تمامًا.
بالحسابات والأرقام المحققة؛ لقد شهد صافي الحساب الجاري للمملكة تراجعًا مروّعًا خلال العام 2023، إذ وصل إلى 34.1 مليار دولار، انخفاضًا من 151.5 مليار دولار في 2022. هذا المؤشر وحده كافٍ للحكم على أن الإدارة المالية والاقتصادية في المملكة لا تتمتع بأقل ضروريات الكفاءة أو الذكاء أو الرؤية، حين تحمّل موازنة منهكة أكبر من طاقة استيعابها؛ فستصل إلى لحظة التعري والفشل، وهذا ما نحن بصدده اليوم.
المثير في قصة "مشروع نيوم" ليس القرار الذي يكاد يشبه التوقف عن إتمامه، ولكن التأخر الشديد في اتخاذ القرار، ثم عدم حسم الأمور بشكل واضح قاطع. فأبسط مبادئ الإدارة؛ أنه بعد تبني خطوة ما، بناء على تقدير موقف سليم عاقل ومناقشة التكاليف والعوائد مع طرح تكاليف الفرص البديلة، فعلى المسؤول أو المدير القيام بأهم خطوة، وهي "المتابعة". وهي خطوة تتطلب وعيًا ومرونة وقدرة نفسية على التراجع إذا ما شعر أن الحسابات خذلته، أو أن رياح الظروف ووضع الأسواق لن يلائم مشروعه، فيجب أن يملك المسؤول جرأة لوقف الخسائر عند حدِّ معين، وهذا كله من الأساس لم يحدث- مع الأسف- في أي فصل من فصول قصتنا المريرة المتكررة.
المعلن، وفقًا لوكالات الأنباء، أن "مشروع نيوم" بأكمله قد قُصقصت أطرافه وضُيّق حجمه ومساحته، في النهاية سيهبط مستهدف سكان هذه البقعة البعيدة من 1.5 مليون إلى 300 ألف شخص في 2030، كما أن مدينة "ذا لاين" ستنضغط هي الأخرى من مستهدفات معلنة 160 كيلو مترًا امتدادًا على ساحل البحر الأحمر إلى 2.4 كيلو مترًا فقط، أي إنها ستفقد 98% من وزنها وثقلها قبل أن تولد.
كان من المعلن، أيضًا، أن المشروع سيحتاج إلى نصف تريليون دولار حتى العام 2030، لكي تكتمل قواعده وخطوطه الأساسية، وأن ترتفع التكلفة بعد ذلك لتصل إلى 1.5 تريليون دولار، بعد أن تكون التجربة قد نضجت ما يكفي لجذب استثمارات أجنبية هائلة مفترضة، وبالطبع سيُلغى إعلان هذه الأرقام الجنونية مرة أخرى، أو قد يُعاد الإعلان عنها، حين يبدأ الناس بتناسي هذه الجريمة.
يبقى سؤال أخير، ماذا خسرت المملكة بالضبط في "خطيئة نيوم"؟؟
واقعًا؛ لا أحد يملك كشف حساب واضح لما أُنفق هدرًا على الرمال، ولا قدرة على الإحاطة بكل تكاليف تهيئة المنطقة شمال غرب المملكة لهذا المشروع الفاشل، من أول الربط اللوجيستي في مختلف مناطق المملكة، إلى الرواتب والمكافآت الخيالية التي تلقاها العاملون والخبراء والمديرون الأجانب في المشروع، وصولًا إلى تقدير حجم الإنشاءات التي تمت بالفعل على الأرض..
كل ما يمكن قوله هو أن ولي العهد محمد ابن سلمان، في فورة رغبة ذاتية، قد مسخ المستقبل، هذا المسخ قد يقود المملكة إلى الفراغ، وربما إلى الضياع.