(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
كما ضاع الجزء الأثمن من قصة السعودية مع النفط، بفعل سوء الإدارة والهدر وغياب الرؤية والفقر الشديد في التخطيط، يوشك عصر جديد كامل على الإفلات والتحرك من دون المملكة .. وإذا كان التبديد الماضي مفهومًا، فإنّ تضييع الفرصة الجديدة هذه المرة له ثمن، ومآلاه الوحيد المنتظر هو نشيد الفناء الذي سيظل يتردد في البوادي الخالية والفارغة من كل حياة.
من جديد؛ تعقد اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين، ومن جديد يكون التحول إلى عصر ما بعد النفط بندًا أساسيًا على لائحة الاجتماعات التي تعقد في واشنطن من 15- 20 نيسان/ أبريل الجاري. وهي الاجتماعات التي تستقطب صنّاع السياسات والوزراء والمديرين التنفيذين لكل دولة أو شركة كبرى على وجه الكوكب. الاجتماع السنوي هذا العام بالذات شهد التركيز على أحدث المستجدات الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وناقش الآثار الاقتصادية للصراع الدائر على المنطقة وفيها، وتأثيره الاقتصادي في مختلف بلدانها.
ما يهمّ المواطن السعودي في هذه الاجتماعات هو الأرقام التي تتعلق مباشرة بالأداء الاقتصادي للمملكة، خصوصًا مع معدلات تضخم مرتفعة وقياسية سيطرت على الأسواق منذ شهرين على الأقل. فقد سجلت معدلات التضخم انفلاتًا لتصل إلى أعلى معدل لها منذ آب/ أغسطس الماضي في شباط/ فبراير 2024 حين بلغت 1.8%، وبلغ مؤشر الرقم القياسي للمستهلك 1.6%، ولم يعد للإجراءات الحكومية الاستثنائية، بما فيها قرار توزيع العلاوات النقدية، في أوائل شهر رمضان المبارك الماضي، أي معنى أو تأثير في الأسواق وفي القدرات الشرائية الحقيقية التي تراجعت بوضوح.
التقرير الأكثر سوداوية من البنك الدولي كان متعلقًا بمعدلات النمو، خلال العام المالي الحالي 2024، فقد خفض توقعاته لنمو الاقتصاد السعودي خلال العام الجاري 2024 إلى 2.5% مقابل 4.1% توقعات سابقة. كما فعل صندوق النقد الدولي تمامًا، إذ خفّض الصندوق توقعاته للنمو هذا العام إلى 2.6% من 2.7% في توقعاته السابقة، أي إن الأطراف المالية الحاكمة والأكثر إطلاعًا تتفق على أن العام الحالي هو السنة السوداء بالنسبة إلى الاقتصاد السعودي، وبالتبعية المواطن السعودي.
الاجتماعات الدولية بالطبع شهدت مشاركة وزير المالية محمد الجدعان، لكنّ الرجل اختار القيام بدور "شاهد ماشفش حاجة"، فلم نسمع له تعليقًا أو مناقشة حول تلك التوقعات، أو تقارير صندوق النقد بشأن التضخم، والتي رشّحتها لاستمرار الاندفاع خلال ما تبقى من العام الحالي، أو أن الرجل كان يحمل ملفًا ضخمًا بعنوان "السعودية 2030"، وظل يردده بعيدًا عن كل شيء يدور حوله، مصممًا وحده على أن هناك إنجازات، مهما بدا أن لا أحد يراها أو يعترف بها غيره.
ليست النتائج التي يتحدث بناء عليها صندوق النقد والبنك الدوليين أسرارًا محجوبة أو طلاسم معقدة، بل هي النتاج الطبيعي لسياسة الإدارة الاقتصادية للمملكة خلال العشرية السوداء الحالية. فمنذ العام 2015 والمملكة تشهد استنزافًا وضغطًا وتبديدًا بات أصعب من القدرة على الاحتمال، في العام الماضي. وبالرغم من طفرة أسعار النفط في 2022، فإن صافي الحساب الجاري للمملكة شهد تراجعًا مروّعًا، في العام المالي الماضي 2023، حين وصل إلى 34.1 مليار دولار، انخفاضًا من 151.5 مليار دولار في العام 2022.
يضاف إلى ذلك؛ أن موازنة المملكة للعام الحالي 2024، وضعت أساسًا بناءً على عجز مقدر كبير، إذ إن العجز المالي لموازنة العام المالي المقبل سيصل إلى 79 مليار ريال، ويتوقع أن يكون إجمالي الإيرادات 1.172 تريليون ريال، بينما من المنتظر أن يبلغ إجمالي المصروفات 1.251 تريليون ريال"، وستعوض المملكة هذه الفوارق عبر اللجوء إلى الحل الجهنمي، وهو "الاقتراض".
إذ سبق أن أعلنت وزارة المالية إنّ الدين العام للمملكة سيزيد في العام الجاري 2024 ليصل إلى نحو 294.1 مليار دولار، بما يعادل 25.9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة هائلة عقلا ومنطقًا، إذ ستعاود المملكة الاقتراض من أسواق المال العالمية، بعد أن سجل الدين العام، في العام المالي الماضي 2023، نحو 273 مليار دولار بما يعادل 24.8% من الناتج المحلي الإجمالي.
التقارير الدولية، في ما يخص المستقبل القريب، متشائمة وكالحة للغاية, فقد شددت اجتماعات الربيع الحالية على استمرار التحديات التي تهدد الاقتصاد العالمي، وتلفحنا بالتداعيات والآثار والأضرار، بفعل توازي ضرائبها الفادحة مع وقوع سلسلة من العوامل الأخرى المحفزة والصعبة، منها: تهديدات التغير المناخي ونتائجه السلبية، أوضاع التراجع وانعدام الأمن في العديد من البلدان، الحروب القائمة في أكثر من بلد في العالم، بالطبع على رأسها الصراع في الشرق الأوسط في فلسطين، والصراع الروسي الأوكراني في أوروبا.
ما هو مؤكد؛ أن المملكة تحتاج إلى وقفة حساب مع النفس أولًا، تسأل أين هي؟، وكيف وصلت إلى هنا؟، وما هو السبيل للخروج من هذه الورطة الصعبة؟
الحل ليس صعبًا ولا مستحيلًا، القدرات البشرية والإمكانات المادية والموارد الكبيرة للمملكة من الممكن أن تغير هذه المسيرة وتبدلها، لكن أولًا عليها أن تواجه القلق الذي بات حاكمًا وحيدًا على العقول والقلوب والوجدان الجمعي للناس، شيطان القلق الذي يزداد سيطرة ويكبر كلما تجاهلناه وخشينا مواجهته.