(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
في التجمعات الدولية الواسعة، يظهر التباين والاختلاف بين الدول، مهما كانت حيوية الموضوعات التي تناقشها وارتباطها بمصير البشر حتى، مثل المناخ والتنمية والطاقة. هذا ما جرى بالضبط في الاجتماع الخاص لمنتدى دافوس الاقتصادي العالمي تحت شعار "التعاون الدولي والنمو والطاقة من أجل التنمية"، والذي استضافته العاصمة السعودية الرياض، حيث كشفت المناقشات والأولويات أنه كما لكل دولة لغة خاصة بها، فإنّ لها كذلك عقلًا مختلفًا يحكم تفكيرها وخطواتها وقراراتها، ولها مصالح تأسرها، مهما بالغت في الإدعاء أو ذهبت إلى المجاملات الدبلوماسية، إلا دولة واحدة يظهر أنها دخلت الاجتماع الخاطئ.
بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية؛ قصة الطاقة معقدة. فهي- أي السعودية- تخضع لأولويات مؤسسات دولية تبيع الوهم، وتروجّ للطاقة الخضراء وغيرها. أولًا هذه المشاريع بعيدة عن الانتشار العالمي في زمن قريب، وثانيًا: حين يأتي ذلك الوقت ستكون المملكة قد فقدت أهم موارد ثروتها وأول بنود إيراداتها، وثالثًا: في موضوع الانبعاثات الكربونية الضارة، لم ينتج العالم العربي منذ اكتشاف البخار ودخول عصر الثورة الصناعية الأولى وإلى اليوم ضررًا يوازي ما تفعله مصانع الولايات المتحدة أو الصين في سنة واحدة، وربما أقل بكثير من ذلك.
لتوضيح صورة الوعد الدولي الجديد بالطاقة الخضراء، أو بمزيج الطاقة النظيفة والهيدروجين وخلافه، نقول إنّه في العام 2021، أنتج العالم الطاقة اعتمادًا على النفط أولًا بنسبة 31%، ثم على الفحم بنسبة 27%، والغاز الطبيعي بنسبة 24%، وعلى محطات الطاقة النووية بنسبة 4%، بينما توقفت حدود إنتاج الطاقة من مصادر كهرومائية أو متجددة إلى 14%، بالمناصفة بينهما.
بالنسبة إلى المملكة؛ فإنّ تراجع صادراتها النفطية تسبّب بهزة اقتصادية عنيفة، طبقًا لأرقام الهيئة العامة للإحصاء، في نهاية الأسبوع الماضي. فقد تبيّن أنّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للمملكة قد انخفض 1.8% على أساس سنوي في أول 3 شهور من العام 2024، مع استمرار التراجع في صادرات النفط، حيث تلتزم المملكة باتفاقية أوبك+1 التي منحتها حصة تبلغ 9 ملايين برميل يوميًا، من متوسط صادرات كان يبلغ 12 مليون برميل يوميًا في العام 2022.
بشكل عام؛ التراجع يمثل سلسلة من المتاعب الاقتصادية التي تشهدها المملكة، بفعل تراجع التصدير وانخفاض أسعار النفط، خلال الربع الأخير من العام الماضي 2023. فقد انكمش الناتج المحلي الإجمالي للمملكة 3.7%، وخلال العام 2023 بأكمله بلغ الانكماش في الناتج المحلي الإجمالي 0.9%.
كان من المفهوم والمنطقي – وحتى الجيد - أن الحكومة قد فهمت أخيرًا أنه يجب إخضاع مشروعاتها العملاقة إلى دراسات اقتصادية ومناقشات لجدواها، ثم تعيد ترتيب أولوياتها الوطنية. هكذا قال تقرير وكالة "بلومبيرغ" الاقتصادية عن تقليص "مشروع نيوم" وتقليل مستهدفاته، بعد أن فشل في جذب استثمارات أجنبية تتيح له الاستمرار حيًا من دون استنزاف الموازنة العامة أو صندوق الثروة السيادي. لكن؛ لأن السعودية لا تعرف للمنطق طريقًا، فقد اختارت العناد حتى النهاية، والاستمرار في تبني المشروع الذي يبدو الآن وهمًا تحيط به الشكوك من كل جانب.
بعد جولة لعدد من رؤساء ومديري المصارف المحلية والعالمية، قدمت تسعة مصارف "محلية" قروضًا وتسهيلات لـ"نيوم" بلغت 2.7 مليار دولار، ومن حيث أرادت الحكومة النفي تأكد عزوف الاستثمارات الأجنبية عن التورط في هكذا مشاريع غير ذات جدوى.
كما استمر العناد والارتباك على الوزراء المشاركين في أعمال المنتدى الاقتصادي.إذ إنّ وزير المالية محمد الجدعان قال إن المملكة ستعدّل خطتها المتعلقة برؤية العام 2030 لتحويل اقتصادها وفقًا لما تقتضيه الحاجة، ما يقلّص حجم بعض المشروعات ويسرّع وتيرة مشروعات أخرى. وأضاف أن هناك تحديات، ليس لدينا غرور، سنغيّر المسار، سنتأقلم، سنوسّع بعض المشروعات، سنقلّص حجم بعض المشروعات، وسنسرّع وتيرة بعض المشروعات". وخلال فعاليات المنتدى ذاته، قال فيصل الإبراهيم وزير الاقتصاد إنه ستُتخذ القرارات بما يتناسب مع احتياجات وعوائد المشاريع، وأن جميع التطورات داخل "نيوم" تشهد اهتمامًا متزايدًا من المستثمرين، ورفض في الوقت ذاته الأنباء التي تتحدث عن تقليص كبير في مشروع المدينة الخيالية، وخصوصًا مشروعها "ذا لاين"!
يعرّف صاحب القاموس المحيط "الفيروز آبادي" عبارة "الوعث" أنه "المكان السهل الدهس، تغيب فيه الأقدام". والكلمة بحدّ ذاتها مرعبة، تعني ما نطلق عليه "بحر الرمال" وهو خليط غريب من الرمال والهواء أو الرمال والماء، تبدو آمنة من بعيد؛ فإذا خطا الإنسان عليها انهارت أمام أخف وزن... الفكرة كلها هنا في أن كل الحالات تفترض بالإنسان أن يتوقف ليعاين مواضع أقدامه، ومواقع خطوته التالية. وفي بعض الأحيان يكون التراجع واجبًا إذا ما كان القادم وعثًا، ويصبح تغيير الطريق ضمانة وحيدة للنجاة، وهو ما تفتقده المملكة، بالضبط.