(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
الخطوة المنطقية الأولى لفهم أي واقع، مهما كان ملتبسًا، هو تفكيك خيوطه وتشابكها للوصول إلى فهم ووعي سليمين للصورة الكاملة، للأطراف ومواقفها ومبادئها وما تريد قوله من رسائل، وربما أكثر، فهم اتجاهات حركتها العامة المستقبلية. هذا الحديث إذا ما طُبق على سلطة حاكمة غاشمة، فإنّ خبرة التجربة التاريخية معها، كفيل بكشف أكثر الأحداث تعقيدًا وإرباكًا.
عبر منصات إخبارية عدة، نُشر خبر قصير موحد، عن القبض على بعض المؤيدين للقضية العربية المركزية فلسطين، وفي صحف متعددة لا تكتب سوى بالأمر المباشر قيل: إن "السلطات الأمنية السعودية اعتقلت مسؤولًا تنفيذيًا رفيعًا في شركة تشارك في خطة التحول الاقتصادي لـ "رؤية 2030"، بعدما عبر عن آرائه بشأن الصراع في غزة، واعتقلت أيضًا شخصية إعلامية قالت إنه لا ينبغي مسامحة الاحتلال أبدًا، وكذلك شخص دعا إلى مقاطعة مطاعم الوجبات السريعة الأميركية في المملكة".
ليست هذه المرة الأولى التي تصعقنا أنباء عن اعتقالات على خلفية التضامن الإنساني والديني والقومي مع القضية العربية، ولا هي المرة الأولى التي يكون سبب الاعتقال فيها مهاجمة كيان العدو وجرائمه، وهي ليست سابقة بالنسبة إلى المملكة، فالحريات –كما هو معلوم وراسخ- معدومة، وكلمات عن الغلاء أو الوضع الاقتصادي على مواقع التواصل، تحمل تلميحًا عن تعثر اقتصادي أو فشل، فستكون أقبية السجون المظلمة الجديدة هي المصير الوحيد.
لكن هذه المرة التي تنتشر فيها الأخبار بهذا الزخم المقصود، رغبة في تأكيد وقوع المصيبة من دون قول رسمي يمكن إدانته مباشرة، الهدف هذه المرة هو "الردع"، السلطة قررت أن تحاكم ضمائر الناس وقلوبهم، حتى فيما يتعلق بارتباطهم الديني مع شهداء وجرحى فلسطين وغزة، والحرب العدوانية المجرمة التي تشنّها عليهم آلة الحرب الصهيونية. هذا الردع سيتحقق من وجهة نظر "حكّام المملكة" بممارسة أقصى قدر ممكن من الفجور في كسر الثوابت الوطنية والقومية، وتمرير مشروع التطبيع الذي تحول إلى تكامل مع كيان العدو من دون السماح بخلق بيئة معارضة جدية له.
الأنباء حول مباحثات بين المملكة والولايات المتحدة تقول إنها ماضية قدمًا في اتجاه إنهاء اتفاق سلام/ استسلام يكون طرفه الثالث هو الكيان.. هذه جريمة خيانة وطنية عظمى وغير مسبوقة، ولتمرير هذا الاتفاق في الداخل السعودي؛ لجأ وليّ العهد محمد بن سلمان لأسلوبه المفضل، فريق إرهاب يدعى "رئاسة أمن الدولة"، لقمع من يجرؤ على التفكير في الوقوف ضد هذه الاتفاقية الجديدة المشؤومة، والقبول بأوهام السلام على جثث أخواننا وعلى أشلاء ضحايانا وقلوبنا الممزقة المتفطرة.
الأخطر في كل ما يجري ليس انعكاسه على اللحظة الحالية وحدها، المملكة هي أكبر الخاسرين من حرب لم تدخلها، مكانة السعودية ودورها وريادتها لعالميها العربي والإسلامي قد أصيبت بفوالق وشروخ متعددة. وهي على وشك الانهيار الكامل، لكن الأزمة الأبعد أن السياسة الخارجية السعودية، وهي تدار بمعرفة شخص واحد –وليّ العهد- قد اختارت أن تحقق مصلحتها الذاتية، مضحيّة بالبلد كله على مذبح رضا واشنطن وبايدن، لمنح الأمير أخيرًا الضوء الأميركي الأخضر للجلوس على العرش.
لم يدرك وليّ العهد ما في عملية "طوفان الأقصى" البطولية من إمكانات وفرص فتحت أبوابها الذهبية لكل دولة عربية. هذه الضربة التي هزت عرش الكيان وكسرت الهيبة الأميركية، كان يمكن ببساطة أن تتحول إلى ورقة تفاوض على الطاولة، حيث تتحول السعودية من دولة وظيفية تخدم السياسة العليا الأميركية إلى شريك كامل، يبتعد بخطوة أو اثنان عن السياسة الأميركية، ويحقق هو استقلال قراره، في حصاد مجاني لتراجع القوة الأميركية، وعجزها وغباءها الشديد وبطئها الأشد في معالجة معركتها.
لو كان وليّ العهد لديه الإدراك والبصيرة اللتين لا تتوفران إلا لقائد تاريخي ملهم، لأدرك خطأه بعرض السلام مجانًا على العدو، ولجلس مكانه ينتظر السعي الأميركي إليه. لو كان الأمير يرى ويقدر ويخطط، لكان الآن يطلب هو من الولايات المتحدة ما يريد، ويحصل في المقابل على شروط قادرة أن تمنحه صوت الشارع السعودي، من قبيل إجبار الكيان على وقف هذه الحرب العدوانية أو سحب مشروع السلام المقدم منه قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بأيام.
تجربة قراءة التاريخ القديم والبعيد تخبرنا بحقيقة شفافة، وهي أن الطرف الذي يقبل على نفسه أن يستجدي، فإنه يقدم دعوة للطرف الآخر أن يتشدد ويستقوي، وأن تهافت الطلب على "تصعيد الأمير إلى العرش"، وفوق أنه وسيلة ذليلة لن تحقق غاية نبيلة، جعل من السياسة السعودية عارية لا تملك شيئًا أمام الأميركي، ثم أمام الصهيوني.
هذه السياسة العارية فقدت كل أوراق قوتها الحقيقية أو تأثيرها الفعال في معادلة رسم المنطقة الجديدة، رفض الشارع السعودي وحده هو ما يجعل للموقف السعودي في التطبيع ثمنًا مرتفعًا، لكن "فلسطين" علمتنا أيضًا أن الانبطاح والتذلل وعمق الفساد وغياب الإرادة وشلل الأعصاب، وقبل كل شيء، الغباء والعناد والغرور لن يحققوا إلا مصالح العدو، ولو على جثثنا.
إن أخطر ما تمر به المملكة، اليوم، هو أزمة مصداقية أمسكت بتلابيبها، فهي محسوسة قدر ما هي قاسية، وهي أفقدتها الثقة مقدمًا في كل شخص وأية كلمة، وهي قبل أي شيء ترى وتدرك محاولات التغطية على الحقائق الساطعة بأوهام التخدير والتغييب واللهو، أو بالأماني البعيدة الهائمة، وبالتزييف والتدليس وممارسة الدجل والترفيه على أوسع نطاق ممكن، وهذا كله توصيف لمشاعر وطن جريح، مشاعر مقبضة وموحشة.