خاص الموقع

غواية الحياد.. والثمن؟

في 2024/05/16

(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)

تزخر تجارب الشعوب وقواميسها ببعض القيم العابرة للأزمان، المتجاوزة لكل شخص أو لغة أو لحظة معينة، مهما كانت فارقة أو مهيبة، منها مثلًا الإدانة الكاملة لفكرة  "الحياد"، وإذا ما كان الحياد في وقت معركة فإن الإدانة تتلون بالدم والعار، المحايد هو شيطان ساكت عن الحق، مفرط ومهان، تصرف فيه كل معاني السقوط الأخلاقي والمبدئي والقيمي،

وبالنسبة لفصل محوري من حياة أمة تبحث عن نفسها وعن دورها وعن مستقبلها، فإن الحياد –هنا والآن- هو الخيانة المجسدة.

المملكة العربية السعودية قررت رسميًا أنها محايدة في الصراع العربي-الصهيوني، بل نزل الأمر بتحول الرياض إلى ما يشبه المراقب لما يجري دون نية تدخل للدعم والإنقاذ في وجه حرب وحشية عدوانية همجية حركت ضمير بعض طلاب الجامعات في الولايات المتحدة ذاتها، بل ويذهب وزير الخارجية إلى التعاطي البارد مع أسئلة التطبيع والمدى الذي وصلت المحادثات بشأنه، وكأن فلسطين بلدًا في كوكب آخر، وكأن ما يجري لا يجري.

الأشد مرارة أن فصوله تتجلى أمام أعيننا، ولمزيد من الحسرة يتنافس أبواق التهليل لولي العهد في النعيق بهذه الإنجازات العظيمة والمسيرة الوطنية المجيدة، وهم في هذا يتنافسون لتبرير أن الدول العربية المطبعة تنازلت مجانًا.. وكأن السعودية ستحصل على ثمن!

من المفترض أن مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان سيزور كل من الرياض وتل أبيب نهاية الأسبوع الحالي، والهدف كما رسمته الصحف الأميركية ووكالات الأنباء الوصول إلى رزمة اتفاق يتضمن تطبيع علاقات محتمل بين الحليفين الأساسيين لواشنطن بالإضافة إلى معاهدة جديدة للدفاع بين واشنطن والرياض، تلتزم بموجبها الولايات المتحدة بتوفير مظلة حماية دفاعية وأمنية للسعودية، كما هو الحاصل في اليابان وكوريا الجنوبية بالضبط.

الفائدة السعودية الوحيدة المرجوة هو نقطة تخص محمد بن سلمان، وفقط، ضمان الأمن والحماية لولي العهد شخصيًا من قبل الإدارة الأميركية، وربما أنجزن خطوط هذه المعاهدة الدفاعية ولم يعد متبقيًا منها إلا وقت الإعلان، الذي مزقته عملية "طوفان الأقصى" وبعثرت خططه وتوقيتاته، وبقدر ما تستمر هذه المقاومة فإن تمرير اتفاقية التطبيع الكامل مع العدو –داخليًا- سيكون أصعب وأكثر كلفة وأعمق تأثيرًا على شرعية الملك القادم.

مقابل سراب الحماية الذي ستتعهد واشنطن بتقديمه فإن السعودية ستمارس عملية بيع وقتل للقضية العربية والإسلامية المركزية، بالضبط كما فعلت سلطة "أوسلو" -حين أقدمت لأول مرة في التاريخ- على التنازل عن أرضها لمستعمر مقابل الفتات، ضمن عملية سلام شامل، بعد كل هذا فإن العقلية اليهودية لم تقبل المعروض، ورغبت بطمعها ودمويّتها بالمزيد، حصلت على الأرض وشرعّنت وجودها، والآن تطالب بلحم الفلسطينيين، درس قاسٍ، لكننا لم نفهمه، ونعيد السقوط فيه.

الفوائد التي ستجنيها أطراف الاتفاق مذهلة، اتفاقية تغطية كاملة دفاعية/ أمنية، ستصنع مشهدًا جديدًا  في الشرق الأوسط، بفعل حضور أميركي كثيف يلازمه، سيطوي الأميركي صراعًا ساخنًا في منطقة معقدة، ويجمده، ليتفرغ لغيره مع روسيا في أوكرانيا ومع الصين في تايوان، سيكون قد حقق هدفه الأول من المنطقة العربية: بضمان تفتيتها بعد زلزال التطبيع السعودي، ثم بدوام سيطرته على منابع النفط، أهم الجوائز وأغلاها.

الأميركي لن يتوقف عن مكاسب إستراتيجية بالجملة، بل سيعمل بكل طاقته وسرعته على تحويل الاتفاق إلى وقود لحملة بايدن الانتخابية المتعثرة، واكتساحًا للوعي العالمي الذي بدا أخيرًا أنه يتنبه لما يحدث من مجازر وإبادة في فلسطين، السعودية إن خطت نحو الكيان الآن، فهي ستعري القضية العربية تمامًا، وكما أسلفنا بلا ثمن.

من جهة أخرى، ومع فشل وعجز جيش العدو عن إخضاع المدينة الباسلة غزة، بالقصف والتجويع والقتل الممنهج الواسع، وبالمساعدات الغربية –والعربية- التي لا تتوقف، فإن ابن سلمان سيمنح نتنياهو أكليل الغار كمكافأة بعد عدوانه، النصر الوحيد الذي يمكن أن يحققه نتنياهو هو على حساب السعودية، تلبية لهواجس أمن تحيط بولي العهد.

لا يمكن لكن إنسان أن يرى، البعض صم بكم عمي، السعودية تتوسل لاتفاق حماية مع أميركا والكيان، هل يمتلك مسؤول أو أمير أو وزير في هذه الدولة الرخوة المخبولة ذرة فهم ليدرك أن حُماته يستجدون الحماية والدعم أمام فصيل صغير، صمد أمامهم لشهور سبع، ولا تزال صواريخه تعزف أشرف نشيد فوق المستعمرات والمدن في كل أرض فلسطين.