(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
سريعًا جدًا غادر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان القمة العربية التي عقدت في البحرين، والتي جاءت تتمةً لخذلان عربي رسمي كامل. "مسخرة المساخر"- كما يُقال في العاميّة- جرت في البحرين، وجلّلتها كلمات جبانة ممن يفترض بهم "قادة وزعماء" لأمة تنحر في وضح النهار، حتى إنه لا يمكن مقارنة كلمة أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، والتي حمّل فيها الاحتلال المسؤولية عن الحرب الهمجية، وبين كلمة المدعو أبو الغيط أمين جامعة الدول العربية الذي كان ينقصه فقط طاقية صغيرة على رأسه تقول الحقيقة المرة مرة واحدة.
لكن الأمير السعودي سرعان ما طار عائدًا إلى اجتماع "القمة" الحقيقي بالنسبة إليه مع مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان، في مدينة الظهران السعودية، ليستعرضا "الخطة الكبرى" لمستقبل المنطقة كلها. هذه المقابلة بالذات لا تستدعي سوى وصف واحد للحال العربية المتردية التائهة، وهي أن قضايا الأمة كبيرة وأقدارها بيد رجال صغار.
طبقًا لما صرّح به سوليفان قبل الاجتماع، اللقاء خُصّص لمناقشة ملفين مهمين و"ورقة توت". إذ قال سوليفان إن: "هذه رؤية متكاملة ومتمثلة بالتوصل إلى تفاهم ثنائي بين واشنطن والرياض إلى جانب تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية؛ ووجوب أن يأتي كل ذلك معًا من أجل استقرار المنطقة، ولا يمكن فصل جزء من الصفقة عن باقي الأجزاء الأخرى". وختم مضيفًا أن هناك خطوات لحلّ المشكلة الفلسطينية، وهي ورقة توت لولي العهد السعودي ليس أكثر.
بالطبع؛ أُشبعت هذه الاتفاقية كلامًا ونقدًا، منذ أن تسربت عبر تقارير الإعلام الأميركي، حتى فجرّها ولي العهد في لقاء تلفزيوني، قبل أيام قليلة من عملية "طوفان الأقصى" التي دمرت المخطط، أو في أقل القليل جمدت كل شيء، مع انتقال الشعب الفلسطيني الصامد إلى ميادين القتال. وهي وضع دوائر الخيانة والعار على كل مواقف وصور دول التطبيع، فقد اختار ولي العهد أن يصمت ولو لبعد حين، ويلجأ إلى الدبلوماسية الناعمة في مقاربة الحدث، بدعوى أن السعودية ترفض الحرب –هكذا بشكل عام- وتمرير خطاب قذر للداخل يسوّغ استمرار المناقشات حول التطبيع، مع سقوط أكثر من 35 ألف شهيد فلسطيني بيد آلة الحرب الصهيونية.
تجمّدت الاتصالات العلنية بعد "طوفان الأقصى" مباشرة، ولم يكن مرده الخوف من وصم الخيانة، ابن سلمان أكثر اندفاعًا من أن يتوقف خوفًا من تهمة تتعلق بالشرف، واللبيب من الإشارة يفهم، لكنه توقف لأن الوضع الداخلي في المملكة وفي ردهات القصور وغرفها العالية سميكة الجدران، ولها حساباتها الضاغطة. إذ منذ صعود الأمير السريع إلى ولاية العهد، ووراء الأكمة ما ورائها، ولذلك يستحسن مرة أخرى النظر إلى شكل الحكم في السعودية، كما كنا نعرفه.
المملكة السعودية، اليوم، بموقعها الإستراتيجي الحيوي ومواردها الاقتصادية الهائلة، تبدو غارقة في دوامات عنيفة من الشكوك والضبابية وفقدان البوصلة، ضائعة أمام العواصف العاتية، وليس هناك أي طرف يملك قدرًا معتدّا من الثقة واليقين في المستقبل، فالكل يلعب لعبة الاحتمالات الخطرة، أو أنزوى بعيدًا بانتظار أن يرى اتجاه الريح الجديد، فيتخذ موقفه.. والدولة في هذه الحال مشلولة الأعصاب، مشتتة، وممزقة بأكثر ممّا تحتمل الظروف والأقدار، وهي واقعيًا قد وجدت إلى جوارها قوة إيرانية ضخمة، ثم قوة يمنية بازغة، وهذا بدوره ولّد ضغطًا ومرر إحساسًا عامًا بمدى انكشاف حقيقتها..
هذا؛ في الوقت الذي يعيش فيه ولي العهد فراغ المشروع، هناك حقيقة أخرى تبرز في المملكة وتزداد كل يوم، وهي أن السلطة التقليدية غير المحدودة للملك قد تحطمت ضوابطها، سواء الشرعية أم القانونية. ومنذ الانقلاب الخشن على ولي العهد السابق؛ طغى إحساس عام بأنّ هناك "عجزًا" في إدارة العلاقات بين أفراد العائلة المالكة، تُرجم فورًا في صورة عنف استهدف تحقيق الإرهاب النفسي للآخرين، ثم أنه كسر شيئًا معنويًا في شرعية السلطة، لم يكن غريبًا أن يكون الانتقال الثالث للعرش من الأبناء إلى الأحفاد في حوزة الفرع السديري من الأسرة السعودية، لكن ما حدث كان دهسًا لخطوط حمراء كثيرة، جعلت القوة وحدها هي المعيار، فنشأت الحاجة إلى نوع من الضمان الأميركي لكرسي العرش، أي إن الملك ببساطة أصبح رهينة لرضا أميركي أولًا.
للمصادفة فقط، حاول ولي العهد شراء الموقف الأميركي من دونالد ترامب الرئيس السابق، ودفع الكثير جدًا للحصول على المشروعية، لكن عندما فاز جوزيف بايدن في الانتخابات نجح في ما لم يستطع النجاح فيه ترامب، وهو إجبار ابن سلمان على تبني خطة للتطبيع الشامل مقابل الرضا الأميركي، فهل يثق أحد بوعد أميركي يتغير كل 4 أو 8 سنوات، ويأتي رئيس جديد بلائحة مطالب جديدة!