(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
بدأت النسمات الإيمانيّة تهبّ معلنة قرب حلول موسم الحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرّمة، ودخول أيام إتمام الركن الخامس من الإسلام لكل مسلم استطاع إليه سبيلًا. في هذه الأيام المباركة التي تظللنا بقربها وأنسها من المعاني والقيم ما هو بحاجة شديدة إلى إعادة تذكير للنفس والغير، ومع معركة "طوفان الأقصى" في أرض أولى القبلتين، القدس، فإننا بحاجة لفهم جديد لشعائر الفريضة الإسلامية ورمزية طقوسها وتكليفاتها.
من المسلّم به أن هناك ارتباطًا وثيق الصلة بين الحج إلى بيت الله والجهاد في سبيل الله، كلاهما من أجل الأعمال في الإسلام، وهما فرصة لتزكية وترقية النفس والروح، الحج تجربة إيمانية تحمل معنى الحركة الدائبة. فكل من يرتبط بهذه الفريضة ستفرض عليه حركة دائمة، من السفر والانتقال، إلى الوصول لمكة المكرمة، ثم الانتقال إلى المشاعر المقدسة، الطواف ومنى وعرفات والمزدلفة، وهو في هذا يتحرك ضمن إطار ضخم يضم كل الحجاج الأخرين، بغير اختلاف في ملبس أو مظهر، يخرج من الدنيا لرحلة مقدسة مؤقتة، يتاح له فيها أن يتعرّف إلى معنى التأمل، وأن يمارس بالفعل سُنّة سيدنا إبراهيم في رفض أوثان الدنيا كلها، والترفع عن صغائرها، والوصول مباشرة إلى نهاية الطريق "الطواف"؛ حيث إعلان العبودية الخالصة لله.
لشعيرة الحج في الإسلام خصائص ذاتية فريدة، لا توجد في أي شعيرة أخرى دينية كانت أم وضعية، فأول أعمال الحج هو النية، وهي هنا إعلان من الإنسان بتوحيد الله وتنزيهه عمن سواه، واختيار طريقه طائعًا ملبيًا، الله الحق وحده لا شريك له، من المفترض أن الحاج حين يصدح بالنية فهو يطلق صرخة رفض مدوّية ضد الظلم والطغيان والقهر، وإن القلب في حاله هذه أقرب ما يكون إلى قلب مجاهد قد أشرف على ميدان المعركة الكبرى في حياته، مؤمنًا ثابتًا عنيدًا، يلبي وحيدًا ومع الجموع حوله طالبًا البراءة من ذنوب الدنيا وأهوائها وشواغلها وظلمتها.
يتمظهر تمايز الحج الإسلامي أيضًا في فكرة "اللباس الواحد"، فرمزية التخلي عن الملبس الذي هو خصيصة للإنسان يدل على بلده وطبقته الاجتماعية وعشيرته وربما وظيفته، يحمل بعدًا آخر يتمثل في نفي زيف الدنيا وشخصيتها من قلب الإنسان، ولو لبعض الوقت، حين يكون كل شخص مسلم متساويًا تمامًا مع أي مسلم آخر، ولا يمكن التمييز بينهما، بهذا التصرف البسيط الواضح يخرج الإنسان من تحكم وأسر الطبقية والمطامع والمكانة الاجتماعية، إلى كون واسع تسود فيه قيم المساواة والحق والعطاء.
اجتماع الحج هو الاجتماع الوحيد في الأرض الذي لا يضمّ نخبًا ولا سفراء ولا ممثلين، إنه اجتماع المسلمين العاديين، من المفترض إنه شعيرة مقدسة تكسر كل الحواجز والحدود والبيئات، فالعربي كالأعجمي، والغربي كالشرقي، الجميع هنا ضيوف الله وعباده وطالبو رضاه، وهم في هذا تجمعهم القضايا المقدسة للأمة وأوجاعها وسقمها وعللها، وبما في الحج من أعمال تعبدية شاملة، مثل الطواف والسعي والوقوف بعرفة، فإنه يكون أقدر على صياغة روح إسلامية واحدة ترفض الحياة بشكلها الرتيب الدنيوي الحقير، وتخاصم حياة العبودية المنمقة الحديثة لرأس المال.
إذا ما جاء ذكر الحج هذا العام بالذات، فلا بد من الوقوف بجلال في حضرة الدماء الزكية التي تزهق في غزة وفلسطين والقدس، في أي فريضة إسلامية من المفروغ منه أن ما يحدث في الأقصى هو شغل إسلامي شاغل وأولوية لا تسبقها غيرها. لكن السؤال، هل ستستفيد الأمة الإسلامية فعلًا من هذا الاجتماع المقدس في صياغة أو رسم موقف مبدئي راسخ ضد العدوان الإجرامي على شعبنا الفلسطيني، والأكثر إلحاحًا: هل سيسمح نظام ابن سلمان المندفع في غيّ التطبيع مع العدو بإظهار أي مواقف إسلامية معادية للكيان في الأراضي المقدسة؟ هذا ما ستجيب الأيام القادمة عليه، وهذا ما سيكون على حجاج بيت الله الحرام أن يقولوه بأنفسهم، هل هو حج إلى الله أم إلى الهوان؟
..
لا يمكن لمسلم أن يعدّ فلسطين إلا قضيته، حتى قبل وطنه، ولا يمكن أن يسوّغ تخاذله بالخوف من الحرب أو الرغبة في السلام، فكرة استمرار الكيان بالأصل هي فكرة تدحض السلام المزعوم، ثم هي خطر قائم ودائم على كل دولة عربية، ويمكن اختصار خطر الكيان بكلمات موجزة وبليغة للعالم الجغرافي الراحل جمال حمدان: "إن الاستعمار العالمي أوجد الكيان ليكون قاعدة متكاملة آمنة عسكريًا، ورأس جسر ثابتًا إستراتيجيًا، وعميلًا خاصًا احتكاريًا، وهو في كل أولئك يمثل فاصلًا أرضيًا يمزق اتصال المنطقة العربية، ويخرب تجانسها، ويمنع وحدتها، وإسفنجة غير قابلة للتشبع تمتص كل طاقاتها، ونزيفًا مزمنًا في مواردها".