(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
مِن المسلَّم به أنّ إمكانية تحقيق الأمر ونقيضه في آنٍ معًا، لا تخطر على بال إنسانٍ بالغ عاقل، هذه أمور محلّها الأساطير القديمة كما في الرواية الخيالية عن "حجر الفلاسفة"، أو أحدث صيحاتها كما في "رؤية 2030"، والاثنتان تتّفقان على أنه من الممكن تحويل التراب إلى ذهب، هذه الرؤية وفلسفتها هي المتّهم الأوّل وراء كلّ الكارثة المروعة التي جرت في موسم الحج التاريخي المأساوي، من حيث عدد الضحايا وسوء الإدارة وغياب التنظيم، وقضى فيها 1100 زائر لبيت الله الحرام.
في البداية، إنّ المملكة بلد سياحي من الدرجة الأولى، إنها وجهة سياحية "مقدّسة" لدى ما يزيد عن ملياري إنسان، والحجّ الذي يتضمن زيارة الكعبة المقدسة في مكة هو أحد أركان الدين، وبالتالي؛ فإن فرضية تحويل المملكة إلى وجهة سياحية هي ليست قفزة تخطيطية بقدر ما هي انحراف فكري ومنطقي يدلّ على خلل عقليّ حاد، فأي دولة في العالم تملك مثل هذه المقاصد التي تعد زيارتها هي حلم ربع سكان الكوكب تقريبًا.
خلال موسم الحج الحالي استقبلت المشاعر المقدّسة 1.83 مليون حاج، بينهم 1.6 مليون وفدوا من خارج البلاد، هذا طبقًا لبيانات الحكومة. طبقًا لبيانات غير رسمية من عدة دول عربية، فإن عدد الضحايا الذين قضوا في موسم الحجّ بلغ 1098 حاجًا، 700 منهم من مصر فقط، والسبب كما أوضحَت عائلاتهم ما يعرف بـ "الحجّ غير الرسمي"، أي أن الزائر استطاع الحصول على تأشيرة سياحة، ثم توجّه إلى مكة لأداء الفريضة الدينية لتجنب دفع الرسوم المرتفعة للتأشيرات الرسمية، وما يرتبط بها من نفقات أخرى في بلده، وبالتالي فإن آلاف الحجاج وصلوا إلى مكة من الباب الخلفي، وهناك على ما يبدو حدثت الصدمة مع ازدحام شديد في مناطق المناسك المقدسة، ثم عجزت الدولة عن خدمة هذه الأعداد التي فاقت خططها ومرافقها، فاختارت السيطرة الأمنية دون التدخل وتوفير الخدمات، في وقت وصلت فيه درجة الحرارة إلى 50 درجة، فضلاً عن ضعف عمليات النقل المنظم والسريع للحجّاج مع زيادة وتكثيف الطوق الأمني وحواجز التفتيش، عوامل تجمعت كلها لتصنع لوحة غارقة في البؤس.
الشهادات من وقائع ما نشره الحجاج عبر مواقع التواصل الاجتماعي تُدمي القلب عن سوء إدارة يرقى لجريمة شنيعة. قبل أن تفتح السلطات الباب للتأشيرات السياحية كان يجب أن تتحسّب لخطر التسرّب من راغبي الحج مع رفع أسعار التأشيرات، في مصر -كمثال- فإنّ الفارق بين أسعار الحج الرسمي وغير الرسمي تبلغ بين 750 ألف إلى 1.5 مليون جنيه، وهي أرقام كبيرة في بلد ضخم وفقير، أغلب الحجاج يقضون جلّ أعمارهم في إدّخار وتأمين تكاليف الحج، ثم كان يجب على المخطط العبقري الذي فاجأته الأحداث – رغم إنها متوقعة ولها دلائل منطقية - أن يقدّم الخدمات للجميع ويستنفر الأجهزة الطبية وفرق الإسعاف والخدمات، خصوصًا في "عرفة"، حيث يبلغ التكدّس ذروته الهائلة، لكن الحقيقة الأكيدة في كل المأساة التي جرت، هي أنه حتى من يزعمون أنهم يمسكون بين أيديهم بالسلطة والأمن والسيطرة لا يمسكون في الواقع شيئًا.
في رواية الموت الأسود التي جرت فصولها في أيام عظيمة وعلى أرض مقدسة، فإن كل هموم السلطات في المملكة كان البحث عن تحقيق مستهدفات السياحة الدينية في رؤية 2030 المشؤومة، أي أن تزيد ما تصفه "حجم سوق السياحة الدينية" من 150 مليار دولار، كما تقول اليوم، إلى 350 مليارًا خلال 6 سنوات فقط، وهو إصرار عنيد ومكابر على الاستمرار بالسياسات الحالية نفسها، التي سترتفع كل عام، وترتفع معها أرقام الموت المجاني، مع العلم بأنّ الاحترار العالمي مرشح للزيادة سنويًا، وهو واحد من أهم أسباب الوفيات خلال الموسم نتيجة للإنهاك الحراري وضربات الشمس.