(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
يقال إن أعظم ما ورّث من حكمة العرب القديمة الخالدة هي "إذا أراد الله هلاك النملة أنبت لها جناحين"؛ وهذا ورد في مجمع الأمثال، الباب الأول في أمثال المولدين. ويعني ببساطة أن وهب النعم الكثيرة والرفاهيات قد يكون سلاحًا ذي حدين، يهلك من حيث يعتقد الإنسان أنه يوفر له الفسحة والأمل والراحة. وقد تحمل فكرة الطيران والابتعاد عن الأرض –المستقر الطبيعي والآمان- في حد ذاتها فكرة الهلاك؛ كلما ظنّ حاملها أنه يستطيع الابتعاد أكثر والتحليق بلا مدى.. إغراء التجربة هنا هو المقتل والضياع، وهذا المثل كله ينطبق على المملكة العربية السعودية التي تحولت تجاربها الأخيرة إلى طيران لا يستند على عقل، ولا يعتصم بمبدأ أو فكرة أو عقل..!
كل إنسان، في العالم اليوم، يعلم يقينًا، وبفعل الصدام الاقتصادي الصيني - الأميركي الهائل وتأثيراته العميقة وصدارته للاهتمامات، أن دولتين فقط هما ما تقوم عليهما وبهما صناعات التكنولوجيا، وهما الصين والولايات المتحدة اللتان تمتلكان حصة الأسد من صناعة الرقائق الفائقة. تاليًا؛ الحديث عن ريادة العصر التكنولوجي أو تحويل دولة ما، مهما كان حجمها أو قدراتها، إلى منافس ثالث هو في حكم الجنون، لا المستحيل، وما ينطبق على أسس وركائز ومكونات الإلكترونيات ينسحب تلقائيًا على كل الصناعات الحديثة من سيارات وطائرات وأجهزة.
الحقيقة الثانية الثابتة هي أن سوق "الألعاب الإلكترونية" يمكن حصره في البلدين، وربما مع وجود قليل لبعض الدول الأخرى المتقدمة مثل اليابان، صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، والتي ترسخت مكانتها في هذا المجال بفعل امتلاكها لنسختها المحلية من الكرتون أو الإنيمي التقليدي. وهي أيضًا تتمتع ببنية تكنولوجية متقدمة ومرنة، ولديها سوق داخلي واسع وخلقت لها الظروف سوقًا إقليمية في آسيا تتمدد باستمرار، وأيضًا الدخول لهذا النادي قد فات وقته، وأفلتت تمامًا فرصه وإمكاناته، هذا إن كنا نتكلم منطقيًا.
قررت المملكة، فجأة ومن الفراغ، أن تنفق ببذخ على حدث استضافة كأس العالم للألعاب الإلكترونية. وللدقة؛ هي أول بطولة في هذا المجال يُسمع عنها على الإطلاق.. وكي يكون الحدث لافتًا؛ قررت هيئة الترفيه رصد جوائز للمشاركة تخطت 60 مليون دولار! بالإضافة إلى استضافة عدد هائل من المشاركين في هذه البطولة العجائبية، بكل ما يستتبع ذلك من تكاليف إقامة وانتقالات وحفلات ومباريات، وبكل ما تحمله من أعباء مالية هائلة، لن تقل مع حضور 1500 لاعب عن ملياري دولار.
البطولة، والتي انطلقت في الثالث من تموز/ يوليو، شهدت كثافة شديدة من التغطية الإعلامية المحلية عبر قنوات هيئة الترفيه وأبواقها وأنفارها، ستستمر حتى 25 آب/ أغسطس 2024. إذ ستجري المنافسات عبر 22 بطولة، في أشهر الألعاب في بوليفارد الرياض سيتي. وكما يقول موقعها الرسمي، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد اشترى شركة فرنسية كانت تنظم حدثًا صغيرًا شبيهًا في فرنسا في العام 2023، هي شركة جيمز-سولوشن (Games-Solution) أصبحت صاحبة العلامة التجارية للمسابقة، بعد شرائها من شركة ليجارينا الفرنسية في العام 2009.
يقول الموقع الرسمي للمسابقة أن هذا التجمع في المملكة يضمن وجود فعّال وكبير من كل مصدري ومتابعي الألعاب الإلكترونية في العالم وسط: "أجواء تنافسية وأحداث ترفيهية ضخمة" لجذب الأنظار، ودعم الابتكار وسوق الألعاب في المملكة العربية السعودية.. هذه فعلًا فرصة جيدة للربح الوفير والانتشار الواسع، خصوصًا وأن سوق الألعاب الإلكترونية في المملكة –الأكبر عربيا وشرق أوسطيًا- يبلغ بالكاد 10 مليارات ريال سعودي!"..
قد يكون ما جرى في مسابقة دوري كرة القدم السعودي يندرج تحت بند غسيل سمعة دولي للنظام الحاكم، ولولي العهد تحديدًا، فقد جرى إنفاق مليارات الدولارات على تعاقدات ولاعبين، واستطاعت هيئة الترفيه صناعة قصة بائسة لكنها مكلفة للغاية، واستغلها البعض في الغرب للهجوم على العقلية العربية والاستثمارات العربية "غير العقلانية"، وهي تتعلق بصناعة تكسب أكثر مما تخسر عادة، فكرة كرة القدم بسبب نفاذها وانتشارها قادرة على تعويض النفقات وترجمتها إلى فرص في مجالات عديدة أخرى، سياحة أو استثمار أو حتى دعاية، أما عن الألعاب الإلكترونية، فمن ذا الذي يهتم بشواغل طفولة ولي العهد وأحلامه؟!