(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
مرة أخرى؛ يستدعي استمرار القتال الواسع في العالم العربي "طوفان الأقصى" أسئلة وجودية مؤرقة للسعودية، مع تخطي القتال عتبة 280 يومًا. وما يبدو من احتمالات، ليست سهلة، بتوسع غير مفاجئ في رقعة النار والبارود التي تنحصر حاليًا في فلسطين المحتلة والبحر الأحمر فقط، بكل ما يستتبعه هذا الاحتمال من تحديات ستفرض على الجميع، حتى الكسالى غير الراغبين، القيام بأعباء الدفاع عن أنفسهم في وجه حرب متعددة الطبقات والأطراف، وتصل فيها الأهداف عند بعضهم إلى ضرورة إفناء الآخر، وليس فقط هزيمته. في هذا الظرف؛ كل دولة عليها أولًا أن تفكر في الدفاع عن نفسها أمام اي تطور قد يحصل قريبًا جدًا.
كان من الضروري والحيوي واللازم لأمن المملكة، قبل شرفها، أن تنخرط لتكون فاعلًا إيجابيًا في الصراع الفلسطيني الصهيوني. ومنذ اللحظة الأولى، كان مبدئيًا أن تستخدم كل أوراق ضغطها، المعنوي والمادي، سعيًا لفرض وقف هذه الإبادة الجارية بحق الشعب العربي الفلسطيني.. ولو كان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يمتلك بعضًا من الذكاء والبصيرة، لعرف أنها فرصة قدرية نادرة، قد منحتها له الأيام ليغير الصورة الذهنية عنه وعن المملكة بالكامل، وكانت المكاسب السياسية في هذه الحال تتخطى أي حد للتصور، لكن الأمير- كالعادة- كان وعدًا بغير موعد، أو هو لم يأتِ من الأصل.
ومن أجل نفخ في الدور السعودي وتضخيمه، في العالم العربي اليوم، بعض الأبواق الجاهلة هلّلت لإعلان المساعدات التي قدمتها المملكة للدول العربية الشقيقة، على منصة حكومية رسمية، وهي "مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية". هذا التصرف يمثل استغباء وجريمة، في آن، مدموغًا بحقيقة أن المساعدات قدمت منذ العام 1975، 110 مليار دولار تقريبًا، أي على مدار نصف قرن، هذا إن تغاضى العقل عن نوع هذه المساعدات، ولمن قدمت "في العراق وسورية خصوصًا"، فإن كل أعبائها أقل من موازنة التسليح السعودي في مدة زمنية أقل من عام ونصف العام فقط!
المملكة العربية السعودية واحدة من القوى الإقليمية الفريدة في مكانتها وفي وزنها، إذ تمثل أهمية قصوى لملياري إنسان مسلم، ثم إنها أول مُصدر للبترول "دماء الصناعة". فالأهمية تتعملق، وكونها تقع في امتداد جيوسياسي على نهاية طريق كل منتجي النفط والغاز الكبار من بحر قزوين مرورًا بإيران إلى الخليج، فإن مسألة امتلاكها أحلاف واسعة ونافذة تساعدها في الدفاع عن نفسها ليست خافية ولا سرية.
من المنطقي أن تثار مسألة إستراتيجية التسلح السعودي من هذه الزاوية أولًا، لا من زاوية موازين القوى الجافة، والتي لا تروي غالبًا كل الحقيقة. والتهديدات العسكرية للمملكة أكبر من أن تمر بالنسبة إلى دول كبرى وأيضًا دول عربية، والجميع يذكر، وسط خلافات العرب التقليدية الراسخة، أن حرب الخليج الثانية (تحرير الكويت) قد اجتذبت كل الجيوش العربية تقريبًا واستنفرتها للدفاع عن المملكة، حين بدا أن هناك شبح احتمال خطة عراقية لقضم المملكة أو جزء منها، فوق ما حشدت من جيوش 32 دولة كبرى في العالم.
المغزى من القصة القديمة في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، أن بقعة منسية ومجهولة تسمى "الخفجي" قد حركت حجمًا من القوات العسكرية أكبر مما تحرك في ميادين الحرب العالمية الثانية. وهذا الأمر ليس صدفة ولا هو حدث واحد؛ بل يُعدّ سياسة ثابتة بالنسبة إلى العديد من القوى في العالم، فالسعودية اليوم لا تعتمد على تحالف مع واشنطن وحدها، لكنها أيضًا تتمتع بعلاقات جيدة جدًا مع الصين وبدرجة أقل مع روسيا، وقد تستطيع الاستثمار فيها وقتما أرادت.
بالرغم من كل الظروف المهيأة لتحقيق الأمن الإقليمي، المملكة السعودية تقدم نوعًا جديدًا من الفن المبتذل هو كيف تستنزف مواردك وتخسرها دونما عوائد. إذ تتفنن المملكة في اتباع إستراتيجيتي الوهم المسلح أو تسليح الوهم، أو كليهما معًا، هذا ما تقوله الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهات المسؤولة بالنسبة إلى الإنفاق الدفاعي السعودي، والذي يبدو كمحيط مظلم ليس له قرار. وفي النهاية؛ هو تسلح مفرط وباذخ ومن دون ضرورة وطنية أو حقيقية، وحديث الأرقام وحدها ترسم أعقد ملامح المشهد السوريالي.
في العام 2022؛ أعلن ولي العهد "الإستراتيجية الوطنية للصناعة" ضمن "رؤية 2030" سيئة الذكر، وتستهدف –حسبما أعلن- زيادة نسبة التوطين على 50% من الإنفاق الحكومي على المعدات العسكرية بحلول العام 2030. لكن أرقام الموازنة للعام الحالي 224، تكشف عن ارتفاع الإنفاق على القطاع العسكري إلى 269 مليار ريال (71 مليار دولار)، أي بزيادة 41 مليار ريال عن البند ذاته في الموازنة في العام 2022.
بشكل عام؛ الإنفاق العسكري بلغ 21.5% من إجمالي الإنفاق السعودي، والمملكة صاحبة خامس أكبر موازنة دفاعية في العالم، خلف كل من الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند. لكن الفارق أن الدول الأربع الأولى تصنع سلاحها وتعتمد على قاعدتها التكنولوجية في تسليح جيوشها. ولاستكمال الصورة فقط، المملكة تنفق أكثر من بريطانيا وفرنسا، وهما الإمبراطوريتان السابقتان، وبكل ما عليهما من أعباء والتزامات أمن كوكبية موزعة على طول المحيطات والقارات، كما تنفق أكثر من كوريا الجنوبية وكيان العدو، مع انخراط الأولى في مواجهة ساخنة مع جارتها الشمالية، وتورط الأخرى في حرب متعددة الجبهات...!