خاص الموقع

المملكة الجديدة.. العقارات للأغنياء وظلالها للفقراء

في 2024/08/17

(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)

إن الدولة بحدّ ذاتها هي بناء يقوم على أسس صلبة وموازين حساسة ودقيقة، ثم بعد ذلك هي ساحة للعمل تحت مظلة هذا البناء.. فإذا ما جرى إدارة هذا الوطن بالإهمال أو التجاهل وتسييد طائفة على حساب أخرى، بشكل ينفي حصول أغلبية الناس على مصالحهم مع تفردهم القيام بالأعباء، فتكون أساسات البناء مهددة على المدى الطويل بالتصدع، والوطن نفسه من المحتمل أن يتهاوى، بعد أن تتضعضع الأسس وتتآكل القوائم.. وعند لحظة الانفجار الحرجة، ستهوي الطوابق كلها كأوراق شجر لعب بها الريح، وستكون البقية خرائب وأنقاضًا على مدى مساحة ما كان وطنًا.

"رؤية 2030" المشؤومة تبنّت أهداف –يقال عنها إصلاحات- أكبر من قدرة الواقع على حملها، ثم هي لم تحاول أن تتجنّب الانزلاق نحو نزيف أثمان هائلة على مشروعات أقرب للخيال الجامح. إذ إنّ الأزمة الحقيقية في المملكة هي أن الأهداف تبدأ ولا تنتهي كدائرة عبثية. وفي هذا الوضع؛ الأثمان التي دُفعت مقدمًا كانت ضخمة وكبيرة، ومع ذلك لا يمكن تعويضها، ولا يمكن تحمّل خسارتها كلها.

القطاع العقاري كان واحدًا من مرتكزات الرؤية العجائبية، بالطبع قطاع الإسكان هو أحد أكثر قطاعات الدولة حيوية، من حق كل مواطن أن يجد سكنًا مناسبًا لقدراته وإمكاناته، وهو واجب الدولة التي تتولّى توفير خقوق الإنسان الأساسية ومن ضمنها السكن. لكن رؤية 2023 قلبت فكرة الدولة على رأسها، في محاولاتها أن تقدم لنا جديدًا في موضوع انتهى أمر النقاش فيه منذ قرن، بالنسبة إلى غيرنا من الدول على الأقل.

استهدفت الرؤية رفع قيمة قطاع العقار السعودي، لكن الأثر الجانبي المرعب لهذه الفكرة الشيطانية أن أسعار العقارات، بشكل عام، شهدت ارتفاعات مذهلة لا توازيها أي زيادات في الرواتب أو الدخول. وهي ارتكبت ما هو أبشع، عن سبق ترصد وإصرار، وهو نشر ثقافة الاستهلاك الترفي الفاخر.. وفي النتيجة؛ صار لدينا مجتمعان، أحدهما ينفق ببذخ غير مسؤول، والآخر ينظر بحسرة لعدم تمكّنه من توفير احتياجاته الإنسانية البسيطة.

يعدّ قطاع العقارات في المملكة هو الأسرع نموًا في دول الشرق الأوسط، بعد أن شهد طفرة عملاقة، سواء في مشاريع بناء المدن الجديدة أم زيادة الإنفاق المتنامي على البنية التحتية للمدن والمناطق المختلفة. وطبقًا لبيانات الهيئة العامة للعقار بالمملكة، فمن المتوقع أن يصل حجم سوق العقارات إلى 69.5 مليار دولار مع نهاية العام الحالي 2024، ويصل إلى 101.6 مليار دولار مع حلول العام 2029، بمعدل نمو سنوي مركب 8%.

لكن هذه الطفرة جعلت سوق العقارات في المملكة تشهد موجة تصعيد أصبحت موحية بذاتها، تواصل دورانها غير النهائي بسبب طبيعة السوق والبلد، معدلات النمو السكاني عالية، وجانب العرض أقل كثيرًا من مواكبة الطلب على الوحدات السكنية الجديدة، ثم إنّ الدولة في غمرة انشغالها بمشروعات نيوم والعلا وغيرها من المنتجعات الخيالية الفاخرة، تناست أن هناك جانبًا آخر للمسألة، ومع توجه شركات العقارات إلى العمل في المشروعات الحكومية لضخامة الإنفاق عليها، شهد السوق طلبًا أكثر وعرضًا أقل، ما يدفع الأسعار للارتفاع باستمرار.

ويقول أحدث تقارير الهيئة العامة للإحصاء –حكومية- والصادر في أول آب/ أغسطس الجاري، إنه منذ بداية العام 2021، شهدت أسعار العقارات في السعودية ارتفاعًا مستمرًا، حيث سجلت زيادة بنسبة 1.7%، في الربع الثاني من العام الحالي 2024، كما شهدت بعض المناطق ارتفاعات قياسية، وتصدرت منطقتا الحدود الشمالية ونجران قائمة المناطق الأعلى ارتفاعًا للعقارات، بزيادة بلغت 8.9% و6.6%، وحظت العاصمة الرياض بنسبة ارتفاع 1.2%، في حين سجلت مكة المكرمة زيادة بنسبة 2.4%، وأرجع التقارير الزيادات المستمرة في الأسعار إلى ارتفاع أسعار الأراضي وتكاليف البناء.

هذه الأرقام توحي بأزمة كبيرة قادمة في قطاع الإسكان، الدولة أو الوطن هو المكان الذي لا يصلح فيه تسليع وبيع كل شيء، هناك فقراء وفئات أولى بالرعاية، هناك جيل جديد يشبّ عن الطوق، ويحتاج إلى أمل وبداية ما، ونسبة البطالة –غير المعلنة- في المملكة قد زادت، والمتابع للتصريحات الحكومية الوردية ومواقع التواصل الاجتماعي سيراها ولو كان كفيفًا.. بالطبع لا أريد أن ألفت نظر الحكومة الكريمة إلى أزمة البطالة، فغيابها على الأقل أفضل من حضورها الذي يعقّد ويفجر الكوارث، لكن في نظرة إلى مستقبل هذا البلد، وحقهم الآدمي في الحصول على سكن، لا أكثر.