(فؤاد السحيباني \ راصد الحليج)
شعور ثقيل من الخجل والنقمة، وقفص فولاذي يحبس القلب ثم يضغط عليه بلا هوادة ولا كلل.. هذا هو ما يحدث حين تخوض تجربة "عذاب ذاتي" رهيبة قدمها الفيلم الهندي "The Goat Life"، أو "حياة الماعز"، أكثر أعمال السينما الهندية قتامة وبؤسًا وتصديرًا للقهر والكراهية. كل من مر بهذه السويعات التي عرض فيها الفيلم خرج بشكل جديد، يغلفه إحساس قاسي بالغربة والرفض والمقت الشديد ليجعلونا نبدو أمام كل العالم بهذا الشكل من انعدام المشاعر والغلظة وغياب معاني الإنسانية أو قيمها، خصوصًا أن العلاقة بين الخاص والعام –فيما يخص الوطن على الأقل- صارت دوائر متعرجة ومتشابكة إلى أبعد مدى.
من السهل أن نصنّف فيلم "حياة الماعز" على أنّه مؤامرة من دولة خليجية ما، تجيد حبك وطبخ هذا النوع من الدعاية السوداء ضد أي دولة أو نظام يعاديها. من السهل كذلك أن نجزم بأن أصحاب المصلحة "الهنود" لهم اليد الطولى في تشويه سمعة المملكة، فالهند مع تقدمها الصناعي واحتياجها الشديد للبترول السعودي، تريد شروطًا تفضيلية من نوع ما بالنسبة إلى عمالتها في المملكة، ثم هي تريد أن تقول هذا بطريقة خشنة لا ناعمة، وقاطعة لا مترددة. لهذا تذكّر الهنود فجأة رواية "بنيامين بيني" بعد 24 عامًا من إصدارها، والتي لاقت شهرة حينذاك وترجمت إلى 7 لغات، وأدعت أنها مبنية على أحداث حقيقية، ثم بدأت توجه السهام المسمومة إلى ظهر المملكة العاري.
لكن ما يهمنا، في المقام الأول، مناقشة هذا الفيلم وتوقيته، مع تصدره قائمة "الأكثر مشاهدة" عبر منصة نتفليكس، منذ طرحه لأول مرة في 19 تموز/ يوليو الماضي، وذلك بعد عرضه في دور العرض في 28 آذار/ مارس الماضي.
في الواقع؛ يمتاز الفيلم بحبكة ممتازة؛ فهو يقوم على قوانين معينة في المملكة، ثم ينطلق من العام إلى الخاص، عبر قصة فردية استثنائية للشاب نجيب الذي وقع ضحية خدعة من شخص سادي أوهمه بأنه الكفيل ثم نقله إلى قلب الصحراء ليعمل راعيًا للغنم والأبل. وكانت صورة العربي بالطبع متماهية مع التصور الهوليوودي المرجعي الكاذب، شخص لا يعرف قلبه الرحمة أو الإنسانية أو الكرامة، يتعامل مع الجميع بمنطق "العبودية". طوال الفيلم يستمر هذا الشخص بالضرب والتجويع وامتهان الكرامة والتهديد بالقتل والملاحقة والربط في حظيرة الإبل، في عدة فصول مروعة مأساوية وتنفجر بالبشاعة. وقد أكملت الموسيقى –تأليف AR Rahman- التي تشبه لحنًا جنائزيًا مهيبًا، أو رجع صدى أنين "نجيب" بطل الفيلم رسم الحكاية الأليمة لهذه الفكرة الرهيبة.
بالطبع لا ننصح من لم يشاهد هذا الفيلم الذي يشبه التعذيب في معتقلات النازية أن يشاهده، فهي تجربة مكثفة شديدة المرارة والألم، وهي تشبه جلسات التعذيب الذاتي "المازوخية".
لكن.. ما نعرفه جيدًا هو أن نظام الكفيل، بكل مظالمه وثغراته وقيوده الحالية، يجب أن يخضع لتغيير جذري، يشمل أول ما يشمل استبدال هذا الاسم المشبوه، بنظام يتعامل مع الإنسان بوصفه إنسانًا، أيًا تكن جنسيته، مع الحفاظ على هوية المجتمع السعودي ومبادئه، وعلى سيادة منظومته القيمية على أراضيه، لكن بغير تجنٍ على حقوق الآخرين أو كرامتهم.
بقيت نقطة أخيرة؛ هذا الفيلم، قليل التكلفة .بالرغم من فقر إمكاناته، قد نجح في تلطيخ صورة المملكة الذهنية بأكثر مما فعل أي شيء آخر عاصرناه، العالم كله يشاهد العربي الفظ الغليظ فاقد الرحمة، مع أنه على بعد حجر من المملكة تقع أكبر مجزرة في التاريخ الإنساني المعروف لنا –على الأقل- بحق مليوني مواطن عربي في غزة المحاصرة.
فقط لو كانت هيئة الترفيه، ورئيسها الجهول الخامل قصير النظر، قد سلط جزءًا من المليارات التي أنفقها على حملات الترفية في المملكة واستقطاب لاعبي كرة القدم والممثلين والمطربين والأحداث الرياضية، قد وجه 1 في الألف من عمله لإيصال المساعدات إلى غزة، أو بإرسال إشارات الدعم والمساندة –ولو معنويًا- لكانت غزة المقاومة هي أول خطوط دفاعه ضد المحاولة الهندية القذرة، لكن ماذا نفعل أمام مسؤولين لا يدركون أنهم مسؤولون!